يوم حظرت دولة النوير إذاعة أغنية “اب ذوق عشا أمو” من راديو أم درمان
عبد الله علي إبراهيم :
للأستاذ فاروق جاتكوث فيديو ذائع. وفيه يأتي بخطاب باكر للزعيم إسماعيل الأزهري يقول فيه إن السودان بلد عربي إسلامي حر. ويعلق عليه فاروق قائلا شوف ديل قرروا أن السودان عربي وإسلامي حتى قبل أن يستقل. وانفجرت القاعة صفقة وضحكاً سخرية ممن سموا الوليد قبل وضوعه. ولو علم فاروق وجمهوره حق العلم بما استنكروه لكان ضحكهم كالبكاء. فالأصل في تشكيل القومية هو صفوة الجماعة التي نهضت بأمرها مثل مؤتمر الخريجين. فهي التي لا ترى الوطن المنتظر إلا في صورتها. وهذا علم نشأة القومية لمن ألقى السمع وهو شهيد. ويسمي أهل العلم العملية التي استنكرها جاتكوث وأضحكت جمهوره ب”تخيل الأمة”. فهذه الصفوة الناهضة بالقومية تتخيل الأمة وهي في رحم الغيب عربية مسلمة ما نسبوا أنفسهم هم عرباً مسلمين. ولهدا يقال إن القومية الصغرى مثل الشمالية تتخيل وطنا مصنوعاً من ثقافتها الضيقة ليغطي ثقافات القوميات الأخرى في الوطن التي ستنتظر الدخول في بوتقة الجماعة ذات الشوكة لتخرج منها على صورتها كما تشتهي. وهذا تلخيص ركيك مني لأشهر نظرية في حقل نشأة القومية عرضها بنديكت أندرسون في كتابه “الأمم المتخيلة” قبل أربعة عقود.
يرمي كثيرون العيب في أسلمة الدولة وتعريبها عندنا على الثقافة العربية والإسلامية التي لا ملكة لها دون سائر ثقافات العالمين للتعايش مع غيرها من الثقافات. وهذا جهل ذائع. فكل قومية صغرى بنت وطناً كما فعلت الصفوة العربية الإسلامية عندنا فَجَرت بحق الثقافات والأقوام المساكنة لها. خذ عندك بلد النور فرنسا. فكان الفرانك الجرمانيين هم من بنى فرنسا وضموا إليها شعب البريتاني الغالي الذي يحتل غربي فرنسا في ١٥٣٢ وأروه نجوم القائلة ثقافياً. فحرمهم الفرانك ذو الشوكة استعمال لغتهم حيث حظروها في المدارس ونصبوا اللافتات تحذر من الحديث. ونشأت منذ حين حركة “هامش” برياتني تغني:
بغير اللغة البريتانية ليس ثمة بريتاني
وأريد في ما تبقى من حديث أن أسأل القارئ: هل تصورت ما كان يمكن أن يكون عليه السودان لو كانت صفوة مؤتمر الخريجين من شعب النوير لا الجلابة؟ سأسبق القارئ إلى هذا السيناريو عن حكم النوير للسودان:
قالت الأنثروبولوجية البريطانية شارون هتشنشون في كتابها عن شعب النوير إن بهم شبهة “عنصرية” في نظرتهم للشماليين. فهم يحرمون الزواج بالأقارب الذين لا يتحرج الشمالي (أو الشمالية) من نكاحهن مثل ابن العم وبنت العم وقس على ذلك. وهذه النكاحات في عرف النوير تؤدي، متى انعقدت، إلى العقم والفساد والمحن. واحتك النوير بالشماليين ووجدوهم يرتعون في الزواج ممن هم حرام في عرفهم ولكنهم في أمان الله ولادين ولادة أرانب لا عقم ولا الله قال. فاحتاروا: لماذا كانت محارمهم حلالاً على الشماليين حراماً عليهم؟
وجدت هتشنسون النوير في الثمانيات يتداولون عن هذه المفارقة بينهم وبين الشماليين. وساقهم ذلك إلى تفسيرات مختلفة ومعقدة. ومن تلك التفسيرات قولهم إن دم الشمالي مختلف عن دمهم. وهو اختلاف يوحي بأن دمهم هم أرفع درجة من دم الشماليين. وخاصة وهم ينسبون اختلاف الدم إلى عادات شمالية “مقرفة” مثل أكل المرارة وختان الأولاد والبنات.
واضح أن للنوير سوء ظن بالشماليين لأنهم على خلاف منهم ينكحون محارمهم ولا يضربهم العقم بسبب دمهم الذي في الدرجة السفلى. وهذه من نوع الحزازات الفاشية بين الأقوام. ولن تصبح عنصرية إلى حين يمسك النوير بزمام الدولة ويصدرون قانوناً يمنع زواج محارمهم هم مثل ابن العم وبنت الخال. ويأتي فيهم على إذاعتهم مثل الرويبضة الطيب مصطفى يصادر أغنية المرحوم الصديق عبد الرحمن بلاص:
بلال يا بلال اب ذوق عشمو
دوب أنا حيي ياخد بت زعمو
ويبكر بالوليد أنا اشيل اشمو
فالأغنية تروج للفسوق بزواج المحارم وذريته لا تستحق أن تنشال وتشم.
كل ثقافة نهضت صفوتها لبناء أمة تخيلتها مقطوعةً من قماشة ثقافتها. وستكون حزازاتها شريعة الأمة إلى حين تحاصرها الثقافات الأخرى وتفرض عليها الامتثال للزمة المتنوعة. هذا هو علم بناء الأمة. والساخرون والضاحكون يمتنعون.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …