‫الرئيسية‬ رأي من أين تأتي البطولة السياسيّة؟
رأي - يناير 26, 2021

من أين تأتي البطولة السياسيّة؟

مأمون التلب :

(1)
من أين تأتي البطولة؟ أعتقد أنها تنبع من العدم. بطولة اليوم أقصد، وأريد أن أتناول حالتي “النضاليّة” كنموذج لفداحة بطلان البطولة العام في حياتنا السياسيّة غير السعيدة أبداً.
(2)
قبل أيام دعى الحزب الشيوعي السوداني لمظاهرة سلمية تعبيراً عن الرفض الشعبي للميزانية الجديدة، وبما أنني جزء من الشعب، ومواطن سوداني، استجبت للدعوة ذات المنطق الطبيعي الذي سيستجيب له كلّ مواطنٍ يعيش ويحملُ بطناً حقيقيّة. لكن الذي حدث فاق كلّ حدٍّ تصوّراته. لقد أصبحنا رجالاً كبار، وأصبح لنا “ظهر”، لا كما كان ظهرنا مكسوراً ونحن شباب في الجامعات، ذات البطولة المكسورة التي رأيتها في عيون شبابنا الطلاب، والتي لن تُذكر للأسف، بل ذكر اعتقال صحفي، أو كاتب، أو فنان ومناضل ومناضلة معروفين في السجل الأوربي، ذوي الجوائز والأنخاب إلى آخر ظلال الأسماء السالبة.
(3)
تحرَّكت المظاهرة من تقاطع شارع القصر مع شارع الجمهورسة، البقعة المفضلّة لديّ؛ مقهى أتنيه، والمكان الذي لم نفارقه منذُ أيّامِ شبابنا. أوقفنا عربة السيدة عزّة، زوجة صديقي محمد أمين عمر، أمام مباني صحيفة السوداني واتجهنا راجلين إلى مكان الموكب. طبعاً أغلقت الشرطة –كما تُؤمر- مكان التجمّع، وهو السبب الذي بفضله -يا للروعة- فضت المظاهرة السلمية. لذلك انطلق في شارع الجمهوريّة مُعفَّراً بالهتاف وغبار المشي ونظرات المارَّة وركَّاب المواصلات العامة وانفعالهم الصادق مع ما يعانونه يومياً من (الذلّ والإهانات المستمرّة)، حتّى أن عربات الشرطة عَبَرتنا وكانت وجوههم متجاوبة مع حالة التجويع الذي تحدثُ، شعبيّاً وعالمياً، ووصلوا إلى مؤخرة الجمع الرافض. أطلقوا، بعد ذلك، الغازات المسيّلة للدموع، لكن الجموع واصلت حركتها الاحتجاجيّة، ووصلت إلى ناصية السفارة المصريّة في الخرطوم، وفُرِّقت هناك بالضرب المبرّح بأذرعٍ جائعة، وبلباس البوليس.
عندما دخلنا الشارع الجانبي –هنا تبدأ الكوميديا- وجدنا أمامنا دفَّاراً مليئاً بالشرطة المسلّحة، ويمشي أمامها ذلك الشخص المرعب بسُمنه ومَشيته، فالبوليس من خلفنا، وأمامنا بحرٌ من الجرائم يسير باتجاهنا. أمسك بذراعي المحرر العام لصحيفة التيار، خالد فتحي، ودفعني باتجاه إحدى البرندات في شارع الجمهورية، واقترح أن نلتمَّ كصحفيين. كان الشباب الغض يُرفَعون في بكاسي أجهزة الأمن، وكنّا نقف –مكتوفي الأيدي- في الزاوية نراقب ما يحدث من ذلٍّ وإهانة، جموع الشرطة قريبةٌ منّا، وبكاسي الأمن على بعد خطوات. لكن الشَيب، والمظهر المُختل لمواطنين سودانيين، وضعنا في منأى عن الاعتقال. إلا أن لله أحياناً مَغارِز! اجتمعنا في زاوية السفارة المصرية في شارع الجمهورية، محاصرين، تماماً، بعناصر الشرطة والأمن (عناصر؟) وكانوا أمامنا، يحدّرون إلينا ونبادلهم النظرات بأوقح منها، قلت لخالد أنني، بشَعري الكثيف، (حأجيبُ لهم الهوا) غير الطيب، فقال أن بطاقته معه، وأن لا أقلق، حسام حيدر كان حاضراً، وكذلك مهند الخطيب وعبد الحميد عوض محرر السوداني العام، أخبرته أنني لا أحمل بطاقة، فقال إنهم سيضمنونني، فانصعتُ، لا لأمرٍ، ولكنَّ الأجواء كانت باعثة على الانتظار.
انتظرنا وشاهدنا كلّ شيء، الإذلال الساحق للطالب، والبشتنة، غير العاديّة، للمواطنين اليوميين، إلى أن طيَّرَ الهوءُ ورقةً كبيرةً وألصقها بساق صديقنا خالد فتحي الذي رفعها وفَتَحها على الملأ، وكانت تحتوي على: (لا للغلاء وكُسّم الحكومة، وحاجات بالشكل ده). في هذه اللحظة طوّقنا ضابطٌ مع مساعديه وقال أن الورقة معروضات! أخرج الجميع بطاقاتهم الصحفيّة ما عدا العبد لله طبعاً، كان خاوي الوفاض، لكن الزملاء، بعد أن قبلت بقدري ونصيبي جلست في البوكس، هددوا وألزموا ضابط الأمن بالتعامل الجيّد إلى حين أن يأتوا بما يُثبت “صحافتي”، وحقيقةً، إضافةً للذل العادي، عاملوني باحترام. حتى أنهم لم يُغلقوا هاتفي، بل كانوا متعاطفين. ثمَّ، في قسم الشرطة، فاجأني الضابط المسؤول بقوله –بعد أن أخبرني لأنه يقرأ ما أكتب من ترهات- أنه سيكون سعيداً إن امتلأت زنزاته، كل يومٍ، بمتظاهرات ومتظاهرين، لأنه سيخرجهم كما (الشعرة من العجين)!.
(3)
استقبلونا استقبال “الأبطال” في حراسة قسم الشرطة! (أصر على كلمة “حراسة”، وأرفض كلمة الاعتقال، لأننا، ببساطة، لم نُعتقل ولم نُعذَّب، كنا في حراسة الحرامية والمزورين وتجار البنقو، أي: أحباب الشعب) كنا، وجهاً لوجهٍ، مع الأبطال الحقيقيين: المزورون، بائعو عنق الخمر المحموم لمحتاجهِ، القتلة غير المأجورين، مغتصبو الحياة بقوّة العين، والمجانين. منهم كان مشجّع الهلال المشهور ويسمّى (أب دقن)، رغم أن لا ذقنَ لهْ. أدخلوه الحراسة بتهمة عجيبة: لقد كسَّر هذا الشخص شاشةً تبلغ قيمتها 45 مليون جنيه (بالجنيه الأصلي -#لا_تنسوا_الجنيه_الأصلي) لأن فريق السودان ضيَع ضربة جزاء! انفرد بي هذا الرجل، وقال لي، بالحرف الواحد، واحدة من أعجب الجمل:
(تعرف يا أستاذ، كل الأزمات الاقتصاديّة، والمظاهرات الحاصلة حسع، والعالم كلو؛ ده كلو تآمر على الجوهرة الزرقاء! عايزين يشوّشوا على الافتتاح الحيتم يوم 17 يناير، لأنهم قاصدين أم در في قَلِبَا!). ثمّ ذهبت اليوم التالي للصحيفة لتصحيح كلمات افتتاح الجوهرة الزرقاء، استاد الهلال، حيث كان الرئيس البشير.
المهم، كانت الحراسة عاديّة جداً، وكنتُ أعرف أن الجميع سيحولونني إلى بطلٍ –بلا بطولة حقيقية- في الثانية التي اعتقلتُ فيها! كان أكثر همي أن أضم في قائمةٍ واحدةٍ مع أمل هباني وما شاكلها، فهي تهمة أكبر من تهمة العمالة للنظام بالنسبة لي على الأقل. لماذا؟ البطولة لا تمت بصلة للاعتقال. أبداً.
(4)
أول مرةٍ تم فيها اعتقالي –اعتقال وليس احتجاز في حراسة الشرطة كما حدث مؤخراً- تم تعذيبي بطريقة لا توصف. أتذكر أنني رأيتُ قطةً في مكاتب الأمن تأكل من قصعةٍ وضعوا فيها طعامنا، رأيت أنها الأكثر إنسانيةً في المكان. كنتُ أطلب الصلاة لأجل الاستراحة من التعذيب، وكنت أجلس على ركبيَّ دون أن أستطيع وضع باطن قدمي في الأرض. استمرَّ هذا الشلل لأيامٍ عديدات، حتّى أنني أذكر أنني، عندما عدت إلى منزلي، صعدت درجات السطع على الركبين ورقدت في السرير الذي امتلأ دماً، وصحوت على بكا ابن خالتي حبيب الله ليلاً.
في ذلك الزمان، لن يتعدّى العارفون بمعاناتك سوى أصدقائك في الكلية التي تدرس فيها، أما اليوم فالبطولة غريبة! شخصياً أعتقد أن ما حدث لي لا يمكن أن يوصف بالبطولة، ولا بالنضال، بل أربأ بنفسي عن هذه التسميات اليوم التي تسيطر عليها حملة الأوسمة الأوربيّة وأصحاب حقوق الإنسان والنساء والأطبال والواجبات.
(5)
خلاصة القول: لا أنتمي لأبطال اليوم السياسيين، بل أنني أنتحي جانباً، لأن المعتقلين الحقيقيين لا يزالون هناك، ومن أُفرج عنهم كان الخواجة واقفاً من خلف ذلك رغم شجاعتهم وتفانيهم الذي لا يصدَّق: عبد المنعم أبو إدريس مراسل الفرنسية وخالد عبد العزيز مراسل رويترز (التقيتهم في الحراسة في ذات اليوم)، نحن لسنا بمناضلين، على الأقل أستطيع قول هذا بما يعنيني:
لقد خرجتُ مطالباً بحقي كإنسانٍ سودانيٍّ في موكب الحزب الشيوعي السوداني الذي أعارضه معارضة فادحة يعرفها أعضاؤه واللذين هم أصدقائي. ولكن الجوع والقهر والإذلال المستمر والإهانات التي نتقاها، كمواطنين، هي التي تدفعنا، ولسوف تدفعنا، مراراً وتكراراً، للاحتجاج على كل ما يحدث من انهيارٍ قتصاديٍّ عالميٍّ تُمثِّلُ بلادنا، القاصر في تفكيرها منذ قرون، نموذجاً باهراً لكيف تنهي الدولة؟.
(6)
بالتأكيد ليس انهيار دولتنا أمرٌ مجتزأ، ليس قطعةً فارقةً من معالم العالم، إنه من صلب انهيار النظام العالمي. لكن الدول التي لم تُعد استراتجياتها منذ منتصف القرن الماضي، وظلّت تتصارع حول السلطة والثروة –وقد كان لأيادي العالم الاستراتيجي أيادٍ كثيرة وسفيهة في هذا المجال- هي التي ستنهار أولاً، وهي التي ستنغمس في البكاء المرّ، فهل علينا أن نصارعها بأدواتها وهي المُتكوّنة من بشرٍ أغبياء وجهلة؟ ربما –نضيف إلى ذلك- مليئين بالغبن السياسي الذي بلغ بهم حدّ قتل المختلفين عنهم في الرأي وتفجيخ أحزابهم؟ (كما ما يحدث بين اليسار واليمين السوداني؟).
(7)
في نهاية الأمر: لست بطلاً، لم أُعذَّب، كلّ ما أطالب به في حياتي أن: أحبوا أفراد جهاز الأمن، أحبوا الشرطة، والذين يعملون في صف النظام العام، إنهم فقراء، وليسوا أعداء على الإطلاق، بل هم الهدف: قال سيدنا المسيح: “أحبوا أعداءَكم”. الجملة ليست هيّنة، إنها تنطوي على فلسفة عميقة في فهم الطبقات ومعنى الإجرام. أتفه طريقة ممكن أن يفهم بها العالم هي: (أشرار وأخيار)، (أبيض وأسود)، وهي كلها عنصريّة. يا ناس هوي، هديل “الأخوان المسلمين” –إن كان من مسمّى كهذا- يغتالون الأكراد في عفرين ولا من مناصر! حقيقة صدمت أن جميع الكارهين لإخوان أردوغان المسلمين –المفتعلين- لا يقاوموا هذه الهجمة الغريبة لجيش دولةٍ كاملةٍ على مقاتلين شجعان حاربوا ومحوا تنظيم داعش من الوجود، ولا من مناصر لهم؟.
(8)
يا لغرابة العالم، يا لغرابة ما سيأتي، ولنا حديث.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …