‫الرئيسية‬ رأي نظرية المؤامرة
رأي - فبراير 3, 2020

نظرية المؤامرة

علي التلوبي
تصادفنا أحياناً تحليلات جيوسياسية تزعم بأن هناك خطة لتقسيم السودان بواسطة اللوبي الأمريكي أو الأوروبي، أو ربما بوساطة الصهيونية أو الماسونية لإضفاء مزيد من الغموض والإثارة. كما ويزعم البعض بأن هجوم 11 سبتمبر على برج التجارة الأمريكي لم يكن من صنع القاعدة بل من صنع المخابرات الأمريكية. وفي مثال ثالث فقد ذهب بعضهم إلى أن داعش هي صنيعة غربية. والقاسم المشترك بين مثل هذه التحليلات هو أنها أمثلة لنظرية المؤامرة.
ولدى التمعن في أسلوب كتابة مثل تلك المواضيع فعادة ما هو أسلوب مجتزأ قائم على الإبهار بالغموض. وتلك النظريات أحياناً كثيرة تعزف على وتر روافع شعبوية بناءً على مشاعر وطنية أو إقليمية أو طبقية أو عقائدية. كما ونلاحظ أن أصحاب نظرية المؤامرة عادة هم أفراد ذوو طبيعة تميل للشغف بالغموض أو ربما الولع بالظهور بمظهر العارف بما وراء الظاهر من الأحداث. ولذلك فإن النظرية التفسيرية المتداولة أو المعلن عنها في العموم لا تشفي غليلهم فيسعون إلى تلك التفسيرات ذات الطبيعة المعقدة.
نظرية المؤامرة عادة ما تقوم بتناول جزئية صغيرة من الأحداث، ثم تشرع في شرح كيفية تفسير نظرية المؤامرة المزعومة لتلك الجزئية الصغيرة. ولكن الخلل الجوهري بنظرية المؤامرة هو عدم قدرتها على تقديم تفسير كلي للأحداث. فنظرية المؤامرة قد تفسر جزءاً ضئيلاً من الظاهرة أو من أحداثها، بينما النظرية الواسعة التداول قد تفسر 98% من الظاهرة. وما يفعله أصحاب نظرية المؤامرة هو استغلال عدم قدرة النظرية الواسعة التداول على تفسير الجزء الضئيل المتبقي بسبب مصادفة هنا أو بسبب غياب معلومة هناك، ومن ثم يقومون برفض النظرية الواسعة والعمل على تنزيل نظريتهم المؤامراتية على ذلك الجزء الضئيل لتفسيره ومن بعدها القفز لاستنتاج متوهم بأن نظريتهم المؤامراتية هي الصحيحة. في حين أن نظريتهم المؤامراتية لم تقدم تفسيراً للجزء الأضخم من الظاهرة أو الأحداث.
شيء آخر رئيس يعيب نظرية المؤامرة، ألا وهو افتراضها عادة بأن هناك مجموعة كبيرة من الناس قد اتفقوا سراً على تلك المؤامرة، وأن ذلك العدد الكبير من الناس حافظ ولا يزال يحافظ على ذلك السر. وعادة ما تفترض نظرية المؤامرة بأن أهداف تلك المجموعة الكبيرة من الناس هي أهداف شريرة تماماً. وكل ذلك صعب التحقق، فلا يمكن لمجموعة كبيرة من الناس أن تتفق بسرية كاملة أو أن تتلبس بالشر المطلق وأن تنفذ خطتها بكامل السرية عبر السنين. فالطبيعة الإنسانية لا تسمح بذلك الشر المطلق، بل هي نزاعة للخير رغم تخللها بالشر، وهي طبيعة متقلبة عبر الزمن، كما أنه يغيب عنها الكمال الذي يمكنه حفظ ذلك النوع من السر الجماعي.

إضافة إلى ذلك فإن بعض نظريات المؤامرة تفترض وجود كتلة وحيدة بأهداف موحدة في حدود جغرافية ما. وهذا افتراض غير واقعي، فالعالم ليس به تكتلات كبيرة ذات اتفاقات بينها. فلا يوجد على سبيل المثال ما يسمى باللوبي الأمريكي، بل هناك لوبيات داخل أمريكا متضاربة المصالح والأهداف. والسياسة الأمريكية منتج معقد كمحصلة لمصالح ومبادئ سياساتها وساستها ذوي الدوافع والميول والمبادئ المختلفة، مع تفاعل ذلك مع تنوع توجهات الناخب الأمريكي والإعلام، وتقاطع كل ذلك مع اللوبيات.
كما وأن نظريات المؤامرة الوطنية تفترض أهمية مركزية ذاتية غير حقيقية. فالسودان مثلاً ليس له تلك الأهمية الجيوسياسية التي تمثل هدفاً لأطماع دول كبرى. وذلك التضخيم المركزي الذاتي هو خاصية عالمية مصدرها معرفتنا الحميمية كمجموعة بشرية بوطننا، إضافة للأهمية المباشرة لتلك الرقعة الجغرافية المدعوة الوطن على حياتنا. ولكن تلك المركزية الذاتية لا يمكن إسقاطها على الآخرين. فعلى سبيل المثال معرفة الأمريكان بالسودان واهتمامها بشأنه هي أقل من معرفة السودانيين بتشاد واهتمامهم بشأنه، رغم قرب الشقة ما بين السودان وتشاد.
لا ندعو هنا لنبذ سبر وتحليل ما وراء الأحداث. كما ولا ندعو إلى تصديق الروايات الرسمية لمسببات الأحداث والتي كثيراً ما يشوبها الانحياز المصلحي أو المعرفي. وإنما ندعو إلى النأي عن استصحاب النظريات التي لا تضيف معرفة، بل فقط تضيف المزيد من العتمة.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …