‫الرئيسية‬ رأي حديث العين
رأي - يونيو 15, 2020

حديث العين

عادل القصاص

خلال الشهور الأخيرة لشبه ديموقراطيتنا الثالثة، عبَّرتُ أكثر من مرَّة، لنفسي، وغالباً لبضعة أصدقاء حميمين، عن امتعاضي، غضبي واكتئابي السياسي بسبب ما كان يغلب على واقعنا السياسي عبر تلك الحقبة، قائلاً لي، ولذلك النفر من الأصدقاء، بأنَّ الحلَّ ربَّما يكمن في مجيء البرابرة.
كان تعبير “مجيء البرابرة” استعارةً لإحدى تأويلات قصيدة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافي، “في انتظار البرابرة”؛ فحينما يعمُّ استفحال أزمة عامة في الواقع، يشرئب الأمل نحو حلٍّ ما، مهما كان خارجياً وقاسياً. لذلك، لم أكن بالغ التوتر في صبيحة الجمعة، ٣٠ يونيو ١٩٨٩، الصبيحة التي كانت أول أيام انقلاب الجبهة الإسلامية القومية.
بالطبع لم يكن ذلك احتفاءً بالانقلاب، كنظام حكم. فأنا لم أكن – ولن أكون – انقلابياً. إنَّما كان وليدَ يأسٍ من لسان حاله يقول: “بلوة تخمهم جميعاً (حكومة ومعارضة المركز السياسي-الثقافي-الاقتصادي-الاجتماعي)!”. كان أملاً في أن يساهم ذلك الانقلاب في تمايز الصفوف السياسية على نحو يُسَهِّل استئصال الأمراض البنيوية، المركزية، المزمنة، المتوارثة، يميناً ويساراً.
وفي الواقع، كانت أنظاري اليافعة، شأنها شأن أنظارٍ أخرى قليلة، يافعة وغير يافعة، لا سيما في المركز الخرطومي وأمثاله في الأقاليم، تضع أملاً كبيراً في الحركة الشعبية لتحرير السودان. فقد كنت، وقلَّة غيري، نرى إلى الحركة كفاعلٍ رئيسٍ – وربَّما وحيدٍ – من شأنه خلخلة، وإعادة ترتيب الخريطة التنظيمية-السياسية، بما يضمن دحرجة التنظيمات الآسنة إلى القبر القمينة به.
كانت تلك نظرة رومانسية، إلى حدٍّ ما، والأهم أنَّها كانت ميكانيكية. بل ربَّما كانت مشرَّبة، بدرجة من الدرجات، بـ”آيديولوجية انقلابية” (فالانقلاب، أيُّ انقلاب سياسي، إنما هو إستراتيجية ميكانيكية رعناء للتغيير). ذلك طبعاً يتناقض مع الموقف من الانقلاب الذي صدر عني في الفقرة الثالثة من هذا المقال. لست أشعر بارتباك أو حرج هنا. فعلاوة على عداوتي، غير الخفية منذ البداية، لانقلاب الجبهة الإسلامية القومية، ساهمت تفاعلات وتطورات متباينة في أن يتأسَّس، في وجداني وذهني، موقف أكثر وضوحاً ونضجاً من الآيديولوجية الانقلابية، يمينيةً كانت أم يسارية.
من هذه التفاعلات والتطورات ما أبان لي أنَّ الحركة الشعبية – في الوقت الذي خرجت فيه، على نحو متميز ورائد – على بعض المُقعِدات الإستراتيجية للتنظيمات السياسية، اليسارية حصراً عندنا، إلا أنَّها لم تتمكَّن، مع ذلك، من التحرُّر من أبرز العيوب البنيوية، الموروثة، التي أقعدت بتلك (وما تزال تُقعِد بهذه) التنظيمات عن النمو النوعي. من ذلك – علاوةً على ضيق الأفق السياسي، الأنانية التنظيمية/الشخصية، الهُزال الثقافي وعلامات أخرى، وبقدر أعظم:
المركزية القابضة، سواء تجلَّت في القائد الواحد أو في بؤرة قيادية أو في الاثنتين معاً، مع غلبة نفوذ القائد الواحد. وهذه الخصيصة، البنيوية، تجمع تنظيماتنا اليمينية مع اليسارية في سلَّةٍ واحدة.
طبعاً هذا لا ينفي وجود فروق نوعية بين التنظيمات اليمينية واليسارية. ففي نظري، أنَّ الأخيرة أكثر تقدماً من الأولى، بالذات فيما يتعلق بتمثُّلات وتمثيلات الحداثة. والقسم الماركسي من الأخيرة أكثر تقدماً من القسم القومي العربي في أوجه عديدة، أبرزها أنَّ ارتباطه بالواقع أبعد غوراً وقراءته له أكثر نفاذاً.
ومع ذلك فإنَّني أزعم:
أنَّ جميع هذه التنظيمات إنَّما هي ابنة بنية التخلف لدينا؛ حيث الأطُر الاجتماعية-الإدارية، التي ظلَّت فاعليتها سائدة، تتمثَّل في القبيلة، العشيرة والطائفة (بما يشمل “الأسرة الحاكمة” في حالاتٍ سائدة للأُطٌر الثلاثة)؛ مما خلَّفَ تأثيرات وميكانزمات – في الوعي و/أو اللاوعي التنظيمي – ذات مستويات متفاوتة من تنظيم لآخر.
ولأنَّ تلك-هذه الفاعلية – القبلية-العشيرية-الطائفية – ظلَّت متوارثة، فإنَّ إدارة شؤون، حُكم “دولتنا” (التي هي القاسم شبه المشترك في حالتنا) نُفِّذتْ بأوامر ذلك (وهذا) الموروث، خلال حقبة شبه ديموقراطيتنا الثالثة، تلك التي تَسَبَّبَ لي واقعُها السياسي في ذلك الامتعاض، الغضب والاكتئاب.
هل يعني هذا تبرئة شبه ديموقراطيتينا اللتين سبقتا تلك الثالثة؟
قطعاً لا.
هل تلك الفاعلية، السحيقة، ما تزال مهيمنة في واقعنا السياسي اليومي، وستكون فاعلة في واقع الغد القريب لنا؟
أزعم أن نعم.
هل أنا أعاني – الآن – من امتعاضٍ، غضبٍ واكتئابٍ سياسيٍّ مماثل، بسبب ما أُرتُكِبَ، وما يزال يُرتَكَبُ، في حق ثورة ديسمبر ٢٠١٨؟
هذا مؤكد.
هل سأعاني – غداً – من امتعاضٍ، غضبٍ واكتئابٍ سياسيٍّ مماثل، بسبب حليمة التي من المتوقَّع أن تعود – لو جاء هذا الغد – لحالتها القديمة؟
هذا مُرجَّح.
هل سيكمن الحل – الآن أو غداً – في مجيء البرابرة؟
قطعا لا.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …