اللغة والتواصل: حكومة الثورة وتلفزيون السودان ما بين البداهة والعلم
بكرى الجاك
درجت العادة في دراسة الدكتوارة في الجامعات الاميركية ان يتحصل طلاب الدكتوراة علي تمويل لتغطية تكاليف الدراسة و المعيشة لثلاثة أو أربعة سنوات علي ان يقوم الطلاب بايجاد فرص تمويل لاكمال دراساتهم من جهات خارجية. هنالك أهمية لتدريب طلاب الدكتوراة في الحصول علي تمويل خارجي ففي ذلك توفير فرص لتعلم كيفية المنافسة والتدرب علي كيفية كتابة مقترحات البحوث والتعود علي نمط من الحياة الاكاديمية التي تتطلب القدرة علي الحصول علي تمويل خارجي كأحد الاركان التي تحدد قابلية الفرد للحصول وظيفة دائمة و ترقية ، واذا توفق الفرد من الحصول علي درجة الدكتوراة و من ثم الحصول علي وظيفة في مجال ال tenure –track اي التعيين الدائم و بحكم التحولات التي حدثت في الحقل الاكاديمي حيث اصبحت الوظائف الدائمة نادرة وان وجدت فأن فرص الحصول علي الترقية ومن ثم ال tenure اصبحت شبه مستحيلة.
فيما يختص بامري فقد حصلت علي تمويل خارجي في السنة الرابعة من دراسة الدكتوراة و لكنه لم يكن كافيا وهو امر معتاد و لم يكن بوسعي الا الحصول علي عمل و مصدر دخل آخر وقد فعلت. الخيارات كانت بالنسبة لي هي اما تنظيف حمامات شركات خاصة او العمل كمتحصل (كاشير) في احدي محطات الشاحنات، لم يكن لدي خيار فقبل ان أعرف بفرصة تنظيف الحمامات فكنت قد قبلت بأمر العمل كمتحصل في محطة شاحنات بها 20 طلمبة جازولين و 8 طلميات بنزين و دكان صغير convenient store وحمام shower (بالقروش) و مطعم و استراحة، و لمن لا يعلم الكثير عن امريكا فمحطات الشاحنات هي الوجه الاخر لامريكا حيث الفقر و العنصرية في ابشع صورها والادمان والدعارة (رغم انها ممنوعة بالقانون) ولذا ظللت اقول علي الدوام ان عملي في محطة الشاحنات لعامين هو درجة الدكتوراة الثانية التي تحصلت عليها فما تعلمته وشاهدته وخبرته عن الفقر في امريكا كان أقيم مما قرأته في الكتب وما سمعته في سمنارات الدكتوراة في القاعات المكيفة. المهم في القصة انه يوم ما سألني سائق شاحنة تائه في الدكان اين هي مكينة البوب pop و ترددت في البداية وسألته ماذا تريد فكانت الدهشة بائنة في عينيه ( ففي ظنه قد قال ماذا يريد لكني لم افهم) و حينها عرفت انني في حيرة من امري وسألت احدي الزميلات عن اين هي مكينة ال pop فأومأت لي over there اي هنالك و اشارت الي ما كنت ساسميه ال soda machine حيث درجت اللغة في الشمال الشرقي الامريكي بتسمية الكوكا و البيبسي وغيرها من المشروبات الغازية بالسودا في حين يسميها سكان الجنوب والوسط الجنوبي بال pop وما تعلمته من هذه القصة هو كيفية التفكير باستمرار في توصيل ما أعني باعتبار ان ذلك مسؤليتي كمرسل وان لا اترك الامر للمتلقي خصوصا انني كنت اخلص وردية الليل في الثامنة صباحا لأجد نفسي امام فصل به 80 طالبا عند العاشرة صباحا فكنت افكر علي الدوام كيف لي ان اوصل المادة عن علم القيادة والتاثير الاقتصادي(Leadership and economic influence ) بشكل يمكن لطالب عمره 18 عام من فهمه.
وبعد ان اكملت درجة الدكتوراة و حصلت علي وظيفة دائمة في برنامج دراسات عليا في السياسة العامة و الادارة حيث اقوم بتدريس مادة عن التواصل الاداري Managerial Communication والمادة في شكلها التقليدي تتحدث عن نظرية الاتصالات من مرسل ووسيط و متلقي و الشروط التي تحيط بثلاثتهما وآليات ذلك من اجتماعات و تقارير و مذكرات و كنت قد رفضت القبول بهذا التبسيط وقمت باضافة جوانب تتعلق بالذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي و بعض التمارين الخاصة بهما وخلاصة فكرة الذكاء العاطفي تكمن في قدرة الفرد في ترجمة العواطف والاحاسيس من شكلها الخام الي افكار ومن ثم التعبير عنها بشكل عقلاني مما يتيح السيطرة علي عواطف الفرد و الاخرين من حوله، هنالك بعض البحوث العلمية التي تؤكد أن الناس قد تتساوي فيما يعرف با IQ Intelligence Quotient او معدل الذكاء لكنها قد لا تحقق نفس النجاح في الحياة غض النظر عن المجالات و التخصصات فيما عرف ب Stanford Marshmallow Studies بسبب الاختلاف في الذكاء العاطفي الذي قد يكون الفاصل ما بين حرق المراكب وادارة علاقات مهمة يمكن ان تكون ذات اثر كبير لاحقا.
من خلال متابعتي للقاءأت رئيس الوزراء دكتور حمدوك مع الاعلام منذ لقائه الاول مع الاستاذ فيصل محمد صالح قبل تعيينه وزيرا للثقافة والاعلام و بقية لقاءآته المحلية والخارجية ولاحقا تصريحات الاستاذ فيصل محمد صالح نفسه في امور شتي لا سيما لقاء البرهان بنتنياهو و من بعده لجنة تفكيك التمكين و اخيرا لقاء الصديق دكتور نصر الدين عبد الباريء وزير العدل الذي اداره الصديق الاستاذ لقمان احمد ومن ثم لقاء الدكتورة هبة محمد علي الوزيرة المكلفة لادارة شؤون وزارة المالية، و ما خلصت اليه ان حكومة الثورة لا تتمتع باي قدر من الذكاء العاطفي او الذكاء الاجتماعي و ربما هذا الضعف هو ما يجعل الكثيرين يعتقدون ان هذه الحكومة لا تفعل اي شيء مفيد يؤثر علي حياتهم، وعليه كلما تم شيء جديد علينا ان ننتظر حملات الفيسبوك لبعض الاشادات عن نجومية فلان ( بعد اعلان تعديل قوانين كان يجب ان يكون قد انتهي اوانها منذ زمن بعيد) و فشل علان بشكل احيانا يبدو تبسيطي وتسطيحي و ايحائي (من باب الغزل الحسي) بما لايليق باهمية و بقدر و بعظمة التوقعات. الذكاء الاجتماعي و العاطفي أمر يتخطي اللغة و طريقة التخاطب لكنه يتضمن اختيار المفردات و طريقة التواصل بشكل يتوافق مع واقعنا الاجتماعي بما فيه من تعقيدات، خلاصة قولي في “فتيل” لا اري لما الاصرار علي استخدام اللغة العربية الفصحي في تلفزيون السودان حيث المتحدث ( المرسل) سوداني والمخاطبون ( المتلقي) سودانيون غض النظر عن اماكنهم و مواقهم الاجتماعية، اوليس العامية السودانية اقرب لهم من مفردات من شاكلة (تشذيب و مقارنات و معادل موضوعي والتزامات و مرتكزات) .. ما العيب في استخدام العامية السودانية بشكل مبسط للتواصل مع المواطنين في امور تهمهم. خذلت في دكتور حمدوك واستاذ فيصل و دكتور نصر الدين ودكتورة هبة… يا اخوانا اتكلموا مع الناس باللغة البفهموها ولما تستضيفكم قناة الجزيرة قولو ليهم هكذا امر و في هذا الشأن يبدو أن الامور معقدة و متداخلة اما حين تتحدثون مع اهلنا السودانيين قولو ليهم امثال و تشبيهات ومفردات من واقعنا واطلعوا من جبة المثقف المفروض يقول كلام معقد ليثبت انه مثقف. لما لا تخضع كل هذه الحكومة من حمدوك الي اصغر مسؤول الي تدريب في كيفية التواصل و الذكاء العاطفي و الذكاء الاجتماعي و فعالية التواصل.. المرشحون للرئاسة الامريكية يخضعون لتدريب طويل و شاق في هذه المجالاتـ الي متي سيكتب علينا ملء الفراغات فيما لا يقال بابداء حسن الظن؟
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …