‫الرئيسية‬ رأي هل عجزت حواءنا عن إنجاب من يقدم السودان كمشروع استثمار ؟
رأي - يوليو 21, 2020

هل عجزت حواءنا عن إنجاب من يقدم السودان كمشروع استثمار ؟

بكري الجاك

الاقتصاد السوداني في حاجة الي مشروع مارشال لتفادي مصير زمبابوي أو ربما ليس للحضيض قاع
هذا الصيف كما كل صيف قمت بتدريس مادة عن تحليل السياسات و تقييم البرامج وفي اول يوم سألت طلابي اذا كان هنالك رجل يتقاضي مرتب سنوي مقداره 24,800 دولار وله زوجة و طفلان دون سن العاشرة وقد حصل علي وظيفة داخل نفس الشركة سترفع مرتبه الي 35 الف دولا في السنة، هل له ان يقبل بالوظيفة الجديدة أم يرفضها و يبقي في مكانه. كل الفصل اجاب أن المنطقي هو الحصول علي زيادة تقارب ال 40% من راتبه السنوي فمثل هذه الزيادة امنية اي عامل، و بعد أن قمنا باجرا عمليه حسابية عن ما ستفقده الاسرة اذا زاد دخلها عن ال 24,875 دولار من التامين الصحي الحكومي المعروف بال Medicaid و مساعدات غذائية و مساعدات سكن حيث ايجار الاسرة الحالي لا يتعدي ال 130 دولار في الشهر وفقا لبرنامج اسكان يعرف ب Section 8 و بعد اجرء العملية الرياضية كاملة اتضح أن الرجل سيخسر ما يعادل 19 الف دولار ليجني ما يقارب العشرة الف دولار في ترقية وسيخسر اكثر من ذلك بكثير فسوف لن يكون باستطاعته الحصول علي تأمين صحي له و لزوجته و سيضطر الي دفع ايجار يعادل ال 1500 دولار في الشهر، باختصار ليس هنالك اي دافع موضوعي للترقي أو العمل علي زيادة الدخل ما لم تكن الزيادة بنسبة 100 %. لمن لا يعرف الكثير عن برامج الدعم الاجتماعي في امريكا فهي مصممة وفق مستوي الدخل العام و area median income اي متوسط الدخل في المنطقة وهذا خطأ في التصميم تم القبول به لأن تكلفة تصميم سياساتية تعامل كل حالة علي حدة قد تكون عالية التنفيذ. عادة استخدم هذا المثال لشرح احد المباديء المعروفة في صناعة السياسة العامة او ما يعرف با Unintended Consequences اي الآثار الغير مقصودة، الاثر غير المتوقع لربط الدعم بمستوي دخل معين هي انها ستخلق Reverse incentive اي التحفيز العكسي للناس وتشجعهم علي تفادي العمل وزيادة الدخل اذا لم تكن الزيادة كبيرة لتعويض فقدان المساعدات الاجتماعية. و استخدم نفس النموذج لشرح مبدأ سياساتي آخر هو أن معالجة الاثار الجانبية لا يتم الا بpolicy سياسة اخري ايضا سيكون لها آثار جانبية بمعني the way out is not the same as the way in في امور السياسة العامة و باستدعاء نظرية التعقيد أو complexity theory الطريق للخروج ليس هو نفس طريق الدخول. الصيادلة سيفهمون ذلك بسهولة لانهم يعرفون انه احيانا ربما يحتاج المريض الي ثلاثة او اربعة ادوية لمعالجة الاثار الجانبية للدواء الاول ودواء الاثار الجانبية يخلق اثارا جانبية يحتاج الي دواء ثالث و هكذا، التعقيد الاسوأ هو ان وقف السياسة في حد ذاتها احيانا لا ينهي اثارها الجانبية.
أعتقد أن اقتصاد السودان في سبتمبر 2019 كان يمكن اسعافه برؤية سياساتية واضحة تعمل علي كبح جماح التضخم عبر السيطرة علي عجز الميزانية حيث كان يجب البدء في تقليص المنصرفات الحكومية قبل التفكير في رفع الايرادات ( دي ياها ال low hanging fruit الفاتت علي البدوي الوزير المستقيل )، مثل تحجيم الصرف البزخي علي القصر و الوزارات و الهيئات الوهمية قبل العمل علي رفع الدعم كما تعجل دكتور البدوي، و بعيدا عن الخوض في الاشكالات الهيكلية للاقتصاد السوداني و تشوه الاسواق من احتكار و مضاربة في سعر الصرف بدلا من تدوير البضاعة لتحقيق ربح سريع كما في اي سوق فعال efficient market، العمل علي خلق حالة توازنات مؤقتة كان يمكن ان تعطي الحكومة فرصة للمناورة و ربط fiscal policy بسياسات نقدية و مالية (وكنا من المنادين بتغيير العملة للسيطرة علي حجم الكتلة النقدية) تستهدف التضخم مما يمهد الطريق لتحريك عجلة الانتاج و هذا ما ظل الكثيرون يقولون به من منطلقات مختلفة. وللامانة المعرفية و دون اثقال علي دكتور البدوي فبرنامج قوي الحرية و التغيير كان و ما زال يسبح فيما يعرف ب Normative Policy Tools مثل السيطرة علي المال العام، محاربة الفقر والتركيز علي الانتاج، هذه أمنيات و ليست اهداف قابلة للتحقيق وفق أدوات سياساتية محددة قابلة للتطبيق و القياس. ما قام به البدوي من رفع الدعم و زيادة المرتبات هو امر سياسي و لا علاقة له باي منطق اقتصادي مثل خفض عجز الميزانية او محاربة التضخم، فمن ناحية رفع الدعم برغم قساوته علي قطاعات عريضة من الشعب لم يؤتي ثماره في خفض عجز الميزانية فقد الجم بزيادة خرافية في مرتبات 900 الف موظف في القطاع العام، و برغم مراوغة دكتور البدوي حين قال أن تمويل هذه الزيادات سوف لن يأتي من طباعة النقود الا أن الشواهد تؤكد أن ما حدث هو بالضبط طباعة النقود لتمويل عجز الميزانية الذي قد تضاعف بسبب زيادة المرتبات. التصريح الذي ادلت به الدكتورة هبة محمد علي وزير المالية المكلف اليوم عن جاهزية مصنع طباعة العملة يشير الي اننا مقبلون علي مرحلة اقتصادية حرجة ستؤدي الي تفاقم التضخم الي مستويات لم يسمع بها السودانيين من قبل و هو ما سيمهد الطريق للسير علي خطي زمبابوي و فنزويلا، فعمليا سوف لن يكون هنالك معني للعملة المحلية في تحديد قيمة الاشياء و سوف يبدأ الناس في التفكير في تقييم الاشياء بالدولار لأن قيمة الجنيه السوداني قد تختلف ما بين الصباح و المساء و هو أمر مربك، فالعملة ليست فقط وسيلة للتبادل في السوق فهي ايضا مخزن للقيمة و لفكرة الاحقية و الاستحقاق. خلاصة القول هنا أن ما كان يمكن أن يكون مفيد من منظور سياساتي قبل خطوات البدوي لم يعد ذا فائدة و الطريق للخروج ليس هو نفس طريق الدخول و الاثار الجانبية قد بدأت تأخذ life of its own مسار حياة خاص بها و يتطلب معالجة مختلفة اي دواء آخر.
في تقديري و اتمني أن أكون علي خطأ انه لايوجد في متناول الدكتورة هبة محمد علي الوزير المكلف للمالية أو من سيتولي المالية في التشكيل الوزراي القادم اي ادوات سياساتية محددة و فعالة effective policy tools في صندوق الادوات مما سيمكن من وقف التدحرج الي الهاوية ال free falling من دون توفر برنامج شبيه بمشروع او خطة مارشال، و للذين لم يسمعوا بخطة مارشال من قبل فهي عبارة عن برنامج تم تسميته علي الجنرال جورج مارشال وزير خارجية امريكا (صاحب الفكرة) بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حيث بدأت امريكا في تقديم مساعدات مالية لاعادة بناء اوروبا تجاوزت ال 15 بليون دولار بنهاية المشروع، وهنالك شبه اجماع في الدوائر الاقتصادية و السياساتية أن خطة مارشال قد اعادت اوروبا الي الحياة و اسهمت في تحقيق أكبر طفرة اقتصادية شهدها العالم في تاريخه فيما اسماه Thomas Piketty توماس بيكيتي بالثلاث العظام قاصدا الخمسينات و الستينات و السبعينات في كتابه Capital in the Twenty-First Century رأس المال في القرن الحادي و العشرين. حجتي انه سوف لن يكون بمقدور السودان بوضعه السياسي الحالي (ما بين تنازع و تدافع و تشظي) و تدهور اقتصادي حتمي من ايجاد اي صيغة بامكانها وقف هذا التدحرج، الا أن السؤال الأهم هو من اين ستأتي هذه الامول؟ خطة مارشال قامت علي اساس المنفعة المتبادلة المتوقعة (فيما يسمي بالاستثمار في المستقبل Investment in the future) حيث رأت امريكا أن وجود اوروبا قوية و ديمقراطية هو ليس فقط هزيمة للمد الشمولي الشيوعي حينها بل ايضا فرصة لخلق أسواق و فرص توسع راسمالي سيعود بالفائدة علي الشركات الامريكية وقد كان. لا أعتقد أن صندوق النقد الدولي و لا البنك الدولي مؤهلان لرؤية اي شيء في السودان أبعد من ال quantitative metrics المقاييس الكمية التي يتبعونها ببروقراطية صارمة وجامدة لتحديد المخاطر في صناعة القرارات بالجهات التي يمكن ان تستثمر في مستقبل السودان هذا لو سلمنا بقبول تبعات ذلك الاستثمار وتعقيدات شروطه.
في تقديري ما يجب أن يكون علي رأس اولوية حكومة السيد رئيس الوزراء الآن هو البحث عن شركاء اقليميين جددـ أو تجديد الشراكة مع بعض القدامي. يا سادتي تعريف السياسة في مفهومها الاوسع هي انها عملية اعادة تعريف المصلحة العامة و (الخاصة) و ليس ” لعبة قذرة و فن الممكن” كما يحلو لمشجعي الكسل الذهني و قاطني المساطب الجانبية تسميتها، فمن غير ضخ ما لايقل عن اثنين الي ثلاثة بليون دولار في بنك السودان لزيادة احتياطات النقد الاجنبي و الحاق ذلك بسياسات كليه تستهدف تقليل الطلب علي الدولار و ربطه برؤية اقتصادية متكاملة تستهدف تحريك عجلة الانتاج تدريجيا عبر السيطرة علي التضخم لا اري امكانية للخروج من هذا النفق الذي ليس له قاع. أعتقد أنه علي الدكتورة هبة أن تتوقف من استخدام مفردة شحدة في كل سانحة تصريح اعلامي، السياسي الذكي يستجلب الخير لقومه باستخدام مافي يده من كروت و السودان يملك العديد من هذه الكروت، بات جليا أن موضوع الأمن الغذائي للمنطقة العربية سيظل أمر في غاية الاهمية اذ أن كوارث مثل الكورونا ربما ستكون من الامور المعتادة في مقبل الايام و الاعتماد علي ال Global Supply Chain نظام امداد عالمي بعيد جغرافيا و معقد فنيا قد اتضح انه امر خطير حتي علي بلد مثل امريكا.
حكومة السودان يجب أن تسوق ما نملك من موارد و مقدرات و ما نملك من مخاطر اذا انهارت بلادنا لتفتح المنطقة من نيجريا حيث وبوكو حرام الي الصومال كمنطقة خصبة لمشروع داعشي جديد مع الاخذ في الاعتبار أن القارة الافريقة الآن تعتبر القارة التي تستضيف اكبر نسبة من السكان ما بين اعمار 15 الي 40 ( تقديرات تؤشر الي 60-65 %)، يجب ان نسهم في اعادة تعريف مصلحلة القوي الاقليمية في وضع بلادنا للحصول علي الدعم و المساندة لاخراج بلادنا من هذه الوهدة الاقتصادية الكارثية التي ستكون سببا في عرقلة و ربما فشل اي تحول سياسي مرتجي، في ظني أن القوي الاقليمية حولنا قد تري فينا اكثر مما يراه صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و في كل الاحوال هذه الدول ترمي ببلايين الدولارات من فوائضها في صناديق ائتمانية تدار هنا في امريكا تجلس لسنوات، هل عقرت حواء السودانية من انجاب امراءة او رجل يستطيع ان يقدم السودان كمشروع استثمار في المستقبل؟ اما بالنسبة للتبسيطيين والمثاليين من القائلين بهبوط ناعم و غيره من اشكال الكسل الذهني اقول لهم ما قال به الراحل دكتور جون الي بعض شبيبة الجيش الاحمر الذين اتوا اليه محتجين ابان صراعات الحركة الشعبية في اوائل التسعينات من القرن الماضي حيث قالوا له أن وليم نون رجعي حدث هذا ابان تحولات الحركة من دعم منقستو و اليسار الماركسي الي البحث عن دعم في الغرب، قال دكتور جون كما حكي لي في آخر لقاء جمعني به في اغسطس 2004 “وليم نون رجعي لكن بندقية هقو ما رجعي”، علينا أن نفكر فيما فيه خير لنا و لاهلنا دون ان نبيع اي شيء من كرامتنا فقط قليل من الذكاء و التفكير العملي البراغماتي واذا كان لحكومة حمدوك خطة بديلة نتمني أن نري حيثياتها.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …