ما بين انتاج المعرفة وصقع الجرة مساحة للتجهيل وتسويق التسطيح
بكرى الجاك
من منظور اكاديمي انتاج معرفة جديدة لا يتأتي هكذا بمحض ان للفرد مزاج رايق و” سفة مدنكلة” بل هو أمر شاق و مرهق و معقد ويتطلب معرفة و جهد و اعمال عقل فقبل ان يخوض الباحث في اي أمر لابد له من الاضطلاع علي ما كتب عن موضوع البحث و من ثم اختيار مدخل مفاهيمي (أو اطار نظري) و منهج بحث و فرضية و سؤال بحث، النتيجة المثالية المأمولة هي ان تكون نتائج البحث هي معرفة جديدة غالبا ما تضيف أو تبني علي دراسات و نظريات موجودة و قد تكون النتيجة طعن في صحة نظرية سابقة او حتي هدم لها و أحيانا قد يكون البحث هدم لكل المنظومة المعرفية في مجال محدد فيما يعرف بال Paradigm Shift اي تغيير المنظومة المعرفية او المسار المعرفي ، اي قلب الطاولة علي كل ما انتج من قبل، وهذه عملية معقدة و لا تحدث بسهولة نتيجة لعلاقات السلطة المعرفية المعقدة التي تحدث في اي مجال معرفي اكاديمي، فأن الفرد الذي يصبح باحثا مؤثرا في اي مجال تخصص يقال عنه Authority سلطة او مرجعية و من الصعب هدم هذه المرجعيات نتيجة لتعقيدات كثيرة تبدأ بمن يقرر الحق في الكلام و الحصول علي فرص للنشر و من ثم القدرة علي التأثير فلكل سلطة حواريها الاكاديميين. خلاصة القول أن انتاج المعرفة في المؤسسات الاكاديمية يتطلب شروط موضوعية و سياق وتدريب و اشراف للاخذ بيد الباحثين الجدد من الوقوع في الاخطاء الكلاسكسية من شاكلة الثقة الزائدة في النفس و التعجل و اليقين، امور ظللت اندهش توفرها بسهولة في الحقل السوداني الاكاديمي و الفيسبوكي وغيرهما ، يقين يدهشني احيانا توفره للجميع.
من منظور اجتماعي سيسيولوجي كل المجتمعات البشرية تنتج و توظف المعرفة بشكل يومي حتي دون معرفتها بذلك، تطور طريقة دفن الموتي و اختيار مواد البناء و تخير شكل البناء كالقطية في مناطق تهطل فيها الامطار بشدة مثل النيل الازرق و القضارف بدلا من الجالوص في مناطق جافة في شمال السودان، هذه نماذج علي انتاج وتوظيف المعرفة خلاف للمعرفة التي تنتج في الحقل الاكاديمي التي يظل جلها نظري و قد يسهم بعضها في فتح الافاق الي تطبيقات في مجال سياسات عامة أو تطوير تشريعات و ما تبقي منها يظل محض وسيلة للمبارزات الفكرية بين البؤساء من طلاب الدراسات العليا وبعض مترددي الحانات. الافراد ينتجون معرفة بشكل يومي في كيفية تخير الوقت المناسب لاصطياد السمك او تخير أنسب الاوقات للحصول علي افضل انواع السمك من مطعم “حسن عشراقة” للاسماك او كيفية تفادي عسف الدولة و تسلطها عبر المشاركة في الفساد المجتمعي، الفرق أن المعرفة التي ينتجها المجتمع خارج الحقول الاكاديمية لا تجد اهتمام و لا يتبعها القاب من شاكلة استاذ فعلا و دكتور علان و لا ادري ما الذي حل بالسودانيين في هذه الايام وغرامهم مع اطلاق لقب دكتور حتي علي حمار كلتوم الذي نجا من قذف الطائرة في امسية خميسية بائسة، فجل منتجي المعرفة في الحقل الاجتماعي يعيشون بسطاء و يموتون بسطاء و ينبطق عليهم قول احد اعظم المؤرخين الامريكيين Howard Zinn في قوله ” the countless small actions of unknown people” اي “الاعمال الصغيرة التي لا تحصي لأناس غير معروفين”، اتمني أن تتوقف عزيزي القاري لتفكر في عدد الناس الذين مروا علي حياتك وتركوا اثرا ولم تفكر يوما في من هو هذا الشخص الذي جعل اي شيء ممكنا بدءا من فراشة المدرسة مرورا بحسن اقاشي وعشة كفتيرة و انتهاءا بعوضية سمك، الان واضح ان عقلي الباطن يشتهي سمك نيلي علي طريقة الموردة.
صقع الجرة مصطلح معروف في الارياف و لسكان المدن هوعملية معقدة تقوم بها بعض الثديات و الطيور، الاغنام تقوم بتخزين بعض الطعام في مؤخرة الحلق او ما يعرف بالجرة و تقوم الشاة بأكله لاحقا بعد العودة الي الحظيرة حيث لا أكل و لا عشب، بلغة السكرجية الغنماية دكنت ليها عضم بجمبه سوي انه دكن في مؤخرة الحلق و في حال الداخليات الطلابية أغلب الظن انه من المستحيل ان تجد مكانا آمنا ان تدس فيه اي شيء حتي حذائك (من واقع تجربة)، اما الطيور فتفعل ذلك لانها تسافر مسافات طويلة لتعود بالغذاء لصغارها و قانون التطور يشير الي انه لا فرصة لصغار الطيور في الحياة الا بقدرة الأم او الأب علي تخزين الطعام في مؤخرة الحلق و من ثم استرجاعه لاطعام الصغار. في اطار المثاقفة صقع الجرة هو ما يعرف بال Regurgitationاي المبارزة المعرفية بما هو قديم و معروف وهو ان يقوم الفرد باستخدام معرفة او مفاهيم انتجها آخرون و يقوم بتدويرها و كأنها شيء جديد كصيغة من ادعاء المعرفة وهنا نقول مارس فلان صقع الجرة الاكاديمي، و للامانة لا غضاضة من الاستشهاد باراء من هم سلطة أو مرجعية في اي مجال لاقامة الحجة و للاضافة في منحي معين لانتاج معرفة او حتي للاستدلال في واقعة حديثة. النظريات في العلوم التطبيقية غالبا ما تلغي بعضها البعض وتاريخ اي مجال تطبيقي هو تاريخ ما يمكن ان يسمي باخطائه وفقا لمعايير الراهن اما في العلوم الاجتماعية فهذه النظريات تتعايش و تتنافس و لا يمكن بشكل قطعي empirical ان تلغي بعضها البعض، وان كان هنالك ثلاثة معايير لقياس صلاحية اي نظرية: اولهما مدي قدرة النظرية في تفسير الواقع و ثانيهما قدرة النظرية علي البقاء و آخرها مدي قابلية النظرية للتطبيق. المعيارين الاول و الثاني لا يوجد صيغة علمية قاطعة لقياسمهما وهذا ما ينتهي بنا الي الايدولوجيا، اسوأ مظاهر فعل صقع الجرة هي حين يتم تسويقه كمعرفة من خلال ممارسة عدم الامانة الاكاديمية من شاكلة التبسيط المخل او التضيليل (مقصود او غير مقصود)، التبسيط المخل يمكن ان يتم حين يقول باحث ان تجربة الدول الاسكندنافية (السويد و النرويج الدنمارك و فنلنده) انها طبقت اشتراكية اجتماعية دون ان يشير الي ان هذه الدول رأسمالية في نظامها الاقتصادي و تتبني الديمقراطية الليبرالية في نظامها السياسي وحينها يصبح من المهم شرح ما المقصود بالاشتراكية في هذا السياق، او ان يقول باحث ان النظلم الصحي في كوبا هو افضل نظام صحي في العالم ( مع أن المعايير التي تستخدم لتقييم الانظمة الصحية مثل متوسط عمر الفرد و موت النساء اثناء الولادة وموت الاطفال دون اكمال العام الاول لا تؤشر الي ذلك) و اهمال ذكر بلد مثل شيلي التي استطاعت بناء نظام صحي يضرب به المثل وهي نفس البلد الذي انتخب اول رئيس اشتراكي في العالم عبر انتخبات حرة في اوائل السبيعنيات من القرن الماضي. مثال آخر هو أن يقول قائل أن مبدا وجود الحرية في الغرب يجعلها متاحة للجميع دون الاخذ في الاعتبار عوامل الفقر والقهر الاجتماعي في العديد من الدول الديمقراطية، مثال اخير أن بعض الكتاب يترجمون بتضليل ( احيانا نسب الفكرة للمترجم)، جوهر الموضوع هنا هو عدم الامانة الاكاديمية و التبسيط المخل كمظاهر مستمرة لممارسة صقع الجرة.
في الواقع الاجتماعي السيسيولوجي صقع الجرة محبب و مرغوب فجل الاسر و المجتمعات لها قصص و حكاوي fables و غيرها من قصص الاحراج الاجتماعي كما لكل اسرة و قرية و شلة ودفعة و غرفة طلاب قصص و احيانا نستمتع بصقع الجرة في تكرار القصص و سماعها عشرات المرات فهذه القصص تخلق ما يعرف بالوجدان المشترك ولولا صقع الجرة الاجتماعي لما ضحكنا لنكات ظللنا نسمعها طوال حوياتنا، لذا لا غبار علي هذه الممارسة في الحقل الاجتماعي والحكايين يتمتعون بسطات و باحترام لكن في اغلب الاحايين هؤلاء الناس لا يملكون القدرة علي الاستغلال والتسلط وان كان استخدام النكات و القصص لتعليب البشر في قوالب stereotype قد يكون له اضرار اجتماعية من شاكلة تقنين العنصرية و تطبيع normalizing التعالي الاجتماعي و احتقار النساء و غيرها وهنا يجب ان يكون للمثقف موقف واضح من صقع الجرة فاذا كان هذا النوع من التكرار له اثر سلبي فالمثقف الحقيقي سيعمل ليس فقط علي وقفه بل علي انهائه.
ختاما كيف للفرد أن يميز بين انتاج المعرفة في الحقل الاكاديمي و في الحقل الاجتماعي و بين صقع الجرة في الحقل الاكاديمي و في الفضاء العام؟ في المجال الاكاديمي صقع الجرة فرص وجوده ضئيلة لان النظام الاكاديمي مصمم لاجراء مراقبة صارمة علي كيفية انتاج المعرفة هذا من حيث التنظير اما في امر الواقع ومع الاخذ في الاعتبار مع ما حل بمؤسساتنا الاكاديمية فلا شك عندي ان هذه المؤسسات الان تمارس صقع الجرة و بشكل مؤسسي رديء و لا ابتكار و لا ابداع فيه وهي غير مؤهلة لانتاج معرفة وهذا اكثر ما يحزن (وربما سيكون لي عودة لهذا الامر)، اما في الحقل الاجتماعي فمن السهولة معرفة المستهبل الذي يحاول ان يبيع لك الهواء وهؤلاء ربما يمكنهم التواجد لفترة لكنهم لا قدرة لهم علي الاستمرار و لكم في شيخ سنار وبلة الغائب و شيخ الكريمت وغيرهم كثر خير مثال. صقع الجرة في الفضاء العام هو المشكلة التي تتطلب القدرة علي التمييز، فلابد للقاريء والمستمع من التمييز بين استخدام اسماء ( مرجعيات) كتأسيس سلطة باعتبار ان ما سيعقبها صحيح فاذا قال احدهم كما قال ابو الفسلفة كانت Kant لا تكترث للاسم و ركز في معني و مدلول الاستشهاد فاذا لم يستوي الاستشهاد في ذهنك اسأل فبعض صاقعي الجرة يرمون بالاسماء لا سكاتك مثلما يفعل الاسلاميين بايراد اية أو حديث في المقدمة، اما اذا كان الاستشهاد من باب صقع الجرة لقول ان هذا الامر مازال مهم كما قال به فلان قبل الف عام فهنا لك ان تعود للمعايير الثلاثة الواردة اعلاه في تقييم اي فكرة أو اي نظرية، اما اذا كنت في ونسة قوامها هو ممارسة مبارزة صقع الجرة فلا تكترث فهذا محض ونسة و كما قيل قديما لك الحق في الكلام و لي الحق في ان اقرر ما اسمع وفق عقل نقدي، الآن جاء دورك لتقييم ماذا كان هذا المقال هو محاولة لانتاج معرفة يمكن توظيفها ام مجرد صقع جرة حميد؟
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …