‫الرئيسية‬ رأي هل يمكن لمظلوم أن ينتصر دون تعاطف ما من الظالم؟
رأي - يوليو 29, 2020

هل يمكن لمظلوم أن ينتصر دون تعاطف ما من الظالم؟

بكري الجاك

قراءة مختصرة في التحالفات الاجتماعية التي فتحت الطريق لتحقيق العدالة و احداث التغيير الاجتماعي
الديمقراطية لا تفشل لكثرة اعدائها بل تفشل لعدم وضوح و تصدر المنتفعين ماديا بوجودها للعمل علي توطينها و استدامتها، هذا الكتاب ( او بالاحري الدعوة) هو شرح مبسط لشروط توطين واستدامة الديمقراطية من خلال واقع تحليل كلي للتجارب الديمقراطية حول العالم، و اذا ما سيكون لما تبقي من السودان فرصة للبقاء كدولة موحدة فلابد لها أن تكون ديمقراطية وهذا يتطلب قيام حلف استراتيجي (ذو بعد سياسي، اجتماعي، اقتصادي، و بيروقراطية جهاز الدولة) يشمل قوي لها مصالح مادية في وجود واستدامة النظام الديمقراطي، في هذا المقال ساتناول الشق السياسي في مشروع الحلف الاستراتيجي.

الرئيس الامريكي ابراهام لنكولن Abraham Lincoln معروف بقدرته الخارقة في قول الكثير من المعاني في قليل من الكلمات، في خطابه الشهير في قيتيسبرغ Gettysburg في 19 نوفمبر1863 استخدم لنكولن 274 كلمة لقول أن التضحيات التي قدمت بواسطة جنود الاتحاد الامريكي من اجل الدفاع عن مبدأ أن “كل البشر سواسية” يعتبر من اعظم الخطب التاريخية لاي رئيس امريكي في الدفاع عن العدالة ان لم يكن اعظمها علي الاطلاق. جاء هذا الخطاب ابان الحرب الاهلية الاميركية في الفترة 1861 الي 1965 و السبب المباشر لهذه الحرب كان اصرار الجنوب الامريكي (ذو الاقتصاد الزراعي، القطن بشكل اساسي) علي استمرار نظام العبودية في مقابل رفض الشمال الامريكي (ذو الاقتصاد الصناعي)، ومرسوم التحريرEmancipation Proclamation الذي اصدره لنكولن اشتمل علي 719 كلمة وقد بدأ العمل به في يناير من عام 1863 وفي 31 يناير من عام 1865 اجاز مجلس الشيوخ التعديل الدستوري رقم 13 وهو التعديل الذي انهي العبودية وجرم اي شكل من اشكال العبودية والاستغلال والسخرة، السؤال المهم الذي يجب علينا التأمل فيه هو كم من العبيد كانو اعضاء في الكونغرس و في مجلس الشيوخ حين اجازة التعديل؟ الاجابة صفر، و بنفس القدر كم كان عدد حاملي السلاح من العبيد السابقين الذين كان باماكانهم اجبار منظمومة الظلم في التراجع، التاريخ يقول أن اعداد المنخرطين في جيوش الاتحاد (الشمال) لم تكن بالقدر الذي يمكن ان يحقق انتصار يغير وجه التاريخ، هنا يجب التذكير بأن ما لايقل عن 265 الف شخص قد فقدوا حياتهم في الحرب الاهلية الاميركية والغالبية العظمي من هؤلاء هم من البيض الذين ماتوا في آتون حرب بين الجنوب المدافع عن العبودية والشمال الذي عمل علي انهائها.

نضالات النساء في الحق في التصويت والانتخاب و الترشح ايضا قد مرت بمحطات طويلة تضمنت تحالفات اجتماعية و حشد وتعبئة بلغت قمتها فيما عرف ب International Women Suffrage Alliance او ما يمكن ترجمته بالتحالف النسائي العالمي للحق في التصويت والذي تشكل في برلين في عام 1904 و قبل ذلك الزمان و تحديدا في عام 1869 منح اقليم Wyoming ويمومنغ ( اقليم حينها و أصبحت ولاية امريكية لاحقا بعد التوسع غربا) النساء الحق في التصويت بشكل انتقائي، النرويج هي اول دولة ذات سيادة تمنح النساء حق التصويت في عام 1913. امريكا قد بدأت التعديل الدستوري لاعطاء النساء حق التصويت في مجلس النواب في عام 1878 و قدا أجيز التعديل في مجلس النواب في21 مايو 1919 وفي مجلس الشيوخ في الرابع من يونيو 1919 و قد تم اعتماد التعديل الدستوري رقم 19 بشكل رسمي بعد اجازته بواسطة ولاية تنسي Tennessee الولاية رقم 36 في 8 أغسطس 1920 ( تعديل الدستور الامريكي يتطلب موافقة ثلثين من مجالس نواب الولايات للموافقة علي التعديل و ثلاثة ارباع الولايات لاجازة التعديل) بعد ايام قلائل سيكون قد مر مائة عام منذ حصول النساء علي الحق في التصويت في امريكا كما تم لاحقا في العديد من الديمقراطيات الراسخة، الحقيقة أن البرلمانات التي اجازت التعديل و التي فتحت الطريق الي النساء الي دخول المجال العام لم تكن مكونة من النساء، بل يحق لنا ان نتسائل كم كان عدد النساء في الكونغرس الامريكي الذي اقر التعديل الدستوري الذي منح النساء الحق في الانتخاب؟ الاجابة امراءة واحدة و هي Jeanette Rankin من ولاية مونتانا التي انتخبت لمجلس النواب في عام 1917، اما مجلس الشيوخ فكان له ان ينتظر حتي عام 1949 حين انتخبت ولاية Maine مين السيدة Margaret Chase Smith، اليوم في الكونغرس الحالي هنالك 26 امراءة من اصل 100 عضو في مجلس الشيوخ و 101 امراءة في مجلس النواب من اصل 435 عضو. من الواضح أن الطريق مازال مليء بالعقبات التي تحجم مشاركة النساء في العمل السياسي و في المجال العام بقدر وجودهن في المجتمع الا أن الحقيقة الماثلة أن التحالف الذي فتح الطريق للنساء شارك فيه بعض الرجال من اصاحاب امتيازات النظلم الابوي البطرياركي.

الظالم القاهر القامع ليس كتلة صماء انما بني من النظم الاجتماعية والاقتصادية التي عادة ما تقوم علي صيانة مصالح و امتيازات شرائح اجتماعية محددة سواء طبقة أو نوع أو هياكل تراتبية، وعملية اي تغيير اجتماعي تضمنت قيام تحالف عريض من اصحاب الامتيازات ( معسكر الظلم) مع المظلومين لفتح الأفق الاجتماعي لتحقيق اي شكل من اشكال العدالة سواء كانت عدالة انسانية أو عدالة اجتماعية أو عدالة نوعية و جميعها تبدأ بصيانة الكرامة الانسانية كحق مقدس. تجارب الانتقال السلمي (عبر حراك اجتماعي و قانوني) و ان تخللتها بعض حقبات العنف الغير منظم تشير الي أن أفضل طرق الانتقال تبدا بتشكل تحالف المظلومين مع شريحة من أصحاب الحظوة التاريخية في معسكر الظالمين و هذا هو التحالف الذي انهي العبودية، و لعمري لا يوجد انتصار لقضية العدالة علي وجه الارض اكثر من هزيمة العبودية اخلاقيا و سياسيا و قانونيا، و نفس التحالف باشكال و بصيغ مختلفة هو ما ساهم في توسيع رقعة الحقوق المدنية لتشمل النساء والاقليات (الاثنية والثقافية و الدينية و الجنسانية sexual orientation ) هذا مع العلم أن الرجال من العبيد المحررين قد حصلوا (نظريا) علي بعض الحقوق المدنية مثل حق التصويت قبل النساء، و ايضا صيغة اخري من هذا التحالف هي التي هزمت نظام التمييز العنصري في امريكا في خمسينيات و سيتينات القرن الماضي و في جنوب افريقيا في مطلع التسعينات. التجارب القليلة التي انتصر فيها المظاليم باستخدام العنف و القوي العسكرية لهزيمة الظالم انتهت بتجارب شمولية و تنصيب دكتاتوريات أسوأ من انظمة الظلم الصريحة التي قامت علي فكرة الآخر المختلف سواءا كان آخر جغرافي أو اثني او ايدولوجي أو طبقي، ولنا في تجارب الثورة البلشفية في روسيا و وكوريا الشمالية و كوبا و الساندنيستا في نيكراغوا و جارتنا ارتريا و حتي رواندا التي بانتظارها عملية اصلاح اجتماعي أعمق مما يتم تسويقه الآن كنموذج مثالي للنهضة.

في واقع السودان هذا التحالف هو ليس فقط لانهاء المظالم بل هو ايضا لبناء الدولة السودانية علي أسس جديدة تضمن حقوق المواطنة المتساوية توقف الموت و العنف و تنهي حالة الاحتقان والغبن والاستغلال و القهر و التهميش بكافة اشكاله مرة و احدة و الي الابد، آخر هذه المحاولات توجت باتفاق السلام الشامل في 2005 و الذي لم يكن شاملا لانه لم يشمل دارفور وانتهت بانتصار القوميين الجنوبيين و هزيمة مشروع السودان الجديد والنتيجة الماثلة الآن قيام دولة في الجنوب لا يوحدها من منظور هوياتي الي خطاب المظلومية التاريخي و لا خيار لاستمرارها كدولة متعثرة الا بقبول جلابة جدد بمكون اثني مغاير أو الخوض في الميلاد العسير (مشروع السودان الجديد لدولة الجنوب) الذي رفضه الاباء المؤسسين للدولة الوليدة تحت مقومات قد تكون موضوعية و مقبولة في سياقها التاريخي و ليس في مقوماتها وسياقاتها الفلسفية، هذا الميلاد العسير ايضا هو ما يطرح الآن امام ما تبقي من الدولة السودانية و اذا ما كان سيكتب لها البقاء موحدة فمازالت رؤية السودان الجديد قائمة برغم التباينات الشكلية و التسميات الكثيرة التي لا تختلف في الجوهر. في تقديري اذا سيكون للدولة السودانية فرصة للبقاء موحدة فلابد من تخلق تحالف له مصلحة مادية حقيقية في قيام دولة ديمقراطية في السودان ليقود عملية وضع لبنات بناء هذه الدولة المتخيلة و المرجوة، وبقراءة واقع الحالة السياسية في السودان تاريخيا مع الاخذ في الحسبان حالة التشظي الراهنة هذا التحالف لا يمكن له فلسفيا ان يخرج من صلب اليمين السياسي و لا اليسار الماركسي و العروبي و لا من رهق الافلاس السياسي السائد، اليمين ليس له مصلحة في توطين و استمرار الديمقراطية الا ذا كانت تضمن وصوله و بقائه في السلطة، المحافظة علي البني التقليدية الظالمة هي افضل طريقة لضمان وصوله للسلطة واذا ما خسر معركة التغيير الاجتماعي سيظل جزء من القوي المحافظة في المجتمع التي ستستعي الي تعطيل مزيدا من التغيير مثلما حدث في كل التجارب الانسانية، اما اليسار فلا يملك لا الادوات المعرفية التي يمكن ترجمتها في حلول و أدوات سياساتية قابلة للتطبيق ولا الخيال السياسي لفهم تعقيدات واقع المجتمعات الحديثة، الماركسية الكلاسيكية لا تري في الاحتجاج الاثني و النوعي و الجنسي سوي محض تمييع للصراع الطبقي او تغييب لطرق اشتغاله هذا اضافة الي انه ليس هنالك ما يؤشر الي ايمان تيار اليسار بالديمقراطية التعددية بشكل مبدئي ابعد مما هو تكتيكي في الأساس، اما اليسار العروبي سواءا كان قطري أو دائري أو فلكي فما زلت اتسائل كيف لبلد مات فيها الملايين بسبب التهميش الاثني أن تحتوي علي من يتحدث عن هوية عربية وامة واحدة ذات رسالة خالدة.

اذن ما هي القوي التي لها مصلحة مادية في توطين و استقرار الديقمراطية فيما تبقي من الدولة السودانية؟ من منظور تحليل كلي meta-analysis في الشق السياسي وهو ما يعنيني في هذا السياق هذه القوي ستبدأ باعادة تعريف مفهوم اليسار و تشتمل علي قوي من الوسط و يسار الوسط وبعض القوي الحديثة وقوي الهامش بكافة اشكالها وتبايناتها، و ربما افضل صيغة لعملية الانتقال تكمن في أن يتخلق هذا التحالف و يبدأ في طرح الاسئلة الجوهرية المتعلقة بوضع المباديء الاساسية التي سيقوم عليها الدستور وهذه المباديء يجب أن تتضمن قضايا المواطنة المتساوية والحقوق الطبيعية والمدنية و قضيا العدالة الانتقالية و العدالة الاجتماعية و التي قد تتطلب تأسيس نظام حكم فيدرالي يعمل باستمرار علي ضمان تحقق هذه الغايات و يفتح المجال العام لمسائلته و محاصرته. ساتناول الجوانب الاجتماعية ( دور المجتمع المدني) و الاقتصادية ( أسس التنافس الحر) و بيروقراطية جهاز الدولة ( القوات النظامية و الخدمة المدنية) لهذا الحلف في مقام آخر اذا توفر الوقت.

في تقديري اذا تعذر امر هذه الرؤية علي القوي السياسية التي تشكل التحالف الحاكم و القوي التي تقف الآن في مربع التفاوض لتحقيق السلام أن تبدأ في التفكير في الخيارات المؤلمة مرة أخري، فقد كان بالامكان التفاوض في يوليو الماضي حول السلام و الدستور ونظام الحكم و تأسيس قاعدة متفق حولها لبناء الدولة السودانية و من ثم الانتقال الي نظام حكم ديمقرطي راسخ ومستدام ولكن كعادة النخب السياسية في بلادنا و لتعجلها و لتقديمها ما هو ذاتي علي ما هو موضوعي انتهينا الي رفاق نضال يفاوضون بعضهما البعض في أمور تم الاتفاق حولها من قبل في مؤتمر الدائرة المستديرة وفي اديس ابابا و في كوكادام و في اسمرا للقضايا المصيرية و في ابوجا وغيرها من الاتفاقيات وصولا الي نيفاشا و اتفاق السلام الشامل الغير شامل. اذا لم تنهار الدولة السودانية بسبب التدهور الاقتصادي و التشظي السياسي و بثقل المطالب التي تقدم الي هذه الدولة كاستحقاقات لعملية السلام و تضائل الشرعيه الاجتماعية ( بسبب فشلها في القيام بدورها) لوجودها واستمرارها ربما علي الجميع الاستعداد النفسي والموضوعي الي مزيدا من التشظي، بذلك أعني ربما قيام دولة في جنوب كردفان و ربما دولة في دارفور و ربما اخري في الشرق، واذا قامت هذه الدول يوما ما أكاد أجزم انها ستنتهي الي نفس مصير دولة الجنوب و ربما اسوأ، علي القوي التي تسعي الي تحقيق العدالة عن طريق اصلاح الدولة السوادانية الحالية البدء في طرح بدائل في حال فشلها في تحقيق هذه العدالة بالشكل العاجل الذي يطالب به البعض، أعني بدائل خارج منظومة هذه الدولة والا فالخيار الافضل للجميع هو العمل علي بناء الحلف الاستراتيجي الذي له مصلحة مادية في قيام و بناء دولة ديمقراطية تضمن حقوق الجميع و تقدس المواطنة.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …