هل ارتكب الفريق برهان أمر جنائي يعاقب عليه القانون؟
عبد الإله محمد عثمان (عبود) :
هل ارتكب الفريق برهان أمر جنائي
يعاقب عليه القانون بعشر سنوات سجن أثناء خطابه بوادي سيدنا ؟
أدت تصريحات السيد رئيس الوزراء يوم الجمعة الماضي فى البرنامج الإذاعي (مؤتمر إذاعي) إلى تجاذبات سياسية بين مختلف القوى الفاعلة على سماط المشهد السودانى ، خصوصا فيما يتعلق بالتحديات الإقتصادية التي تواجه الحكومة وعدم رضا الشارع السوداني عن أداء الحكومة خصوصاً فى معالجة الضائقة المعيشية الحادة والتى تحتدم كل يوم بل وكل ساعة. رغم أن السيد رئيس الوزراء لم يسم جهة بعينها فى حديثه بشأن نسبة ال 18% وتدنى الحصيلة الضريبية إلى اق٦ل من 6% فضلا عن وجود عائدات مقدرة خارج سيطرة وزارة المالية وفى غير حرز الخزانة العامة ومتناولها، إلا أن ردود الافعال لم تتأخر كثيراً.
والظاهر أن تصريحات السيد رئيس مجلس الوزراء لم تسعد المكون العسكرى فى معادلة السلطة الانتقالية المبنية على شراكة بين اعلان قوى الحرية والتغيير والجيش، إذ أسرع الفريق البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة بإجراء جولة مكوكية من اللقاءات مع قادة الوحدات العسكرية من رتبة عميد فما فوق ، ثم التقى لاحقاً مع مجموعة من العسكريين تحدث فى كلا اللقائين حديثا مطولاً رغم أنه أمن فيه على إيمان القوات المسلحة بالثورة وشعاراتها الا أنه إستبطن عدم الرضا عن تصريحات رئيس الوزراء الاخيرة وأنحى باللوم على وزارة المالية التي لم تسعى إلى إستلام عوائد الشركات الخاضعة للقوات المسلحة والأمن رغم مبادرة القوات المسلحة وحسن نواياها فى حل الضائقة المعيشية دعما لجهود الحكومة فى هذا الشأن ، و إتهم جهات لم يسمها بالسعي لخلق جفوة بين القوات المسلحة والشعب.
بطبيعة الحال أنا لست رجل سياسة ولست خبيراُ في التحليل السياسي والتنبؤ بمآلات الوضع السياسي الراهن. ولكن بحكم مهنيتي استشعرت أن الواجب يلقي بثقله علينا بضرورة إلقاء الضوء على الإجراءات المالية والمحاسبية التى تضبط الموازنة العامة للدولة السودانية الحديثة التي شاد بنيانها إتفاق الحكم الثنائي المعقود فى العام 1898 بين الدولتين المتعاقدتين على حكم السودان وقتذاك (مملكة بريطانيا العظمى وحكومة مصر الخديوية العثمانية) التي شكلت (بتعديلاتها المختلفة) دستور الحكم للبلاد حتى عام 1953 حيث خلف عليها قانون الحكم الذاتي لعام 1953 الذى أعاد البرلمان السوداني تشريعه فيما بعد فى شكل دستور 1956 الانتقالى. الدولة السودانية الحديثة قامت منذ تأسيسها على مؤسسات منضبطة على رأسها حاكم عام (رأس الدولة تجتمع فى يديه السلطات ) وسكرتير مالي وسكرتير إداري وسكرتير قضائي.
تطورت السكرتارية المالية لوزراة الخزانة بعد الإستقلال وسميت أخيراُ بوزارة المالية وأسندت إليها ولاية المال العام. وتنتهج الدولة السودانية مذهباُ مركزياً حازماً فى إدارة المال العام، و إشتهر العاملون بوزارة المالية السودانية عبر الحقب المختلفة بالمحافظة على الممارسات الصارمة فى إدارة المشتريات الحكومية وضبط الانفاق العام والانصياع التام للاساليب المحاسبية فى إدارة أموال الدولة. لم يتأثر هذا المنهج الصارم عبر الحقب المختلفة إلا فى خلال العهد المباد الذى أدار أموال الدولة بفقه المرباع البدوي ولم يكن أمينا حتى فى هذا المنهج البدائي فى إدارة المال العام.
قد نجد العذر للفريق البرهان فيما قاله بأنهم طلبوا من وزارة المالية إستلام أموال الشركات التابعة للقوات المسلحة والشركات الامنية، فالرجل ( شأنه شأن بني جيل الانقاذ) لم ينشأ فى دولة تحترم المؤسسات وتلتزم الامتثال لضوابط إدارة الأموال العامة وحوكمة التصرف فيها وقواعد إستخدامها وأسس صرفها الراسخة منذ عشرات السنين الى أن ضرب البلاد إعصار الكيزان الذى أحال الأرض إلى صريم. وجب القول أن الولاية العامة للمال العام هى إختصاص وزارة المالية، بما فى ذلك القوات المسلحة والدفاع والأمن دون أي إستثناء. من المعلوم أن الموازنة العامة للدولة تتكون من ثلاثة فصول:
الفصل الأول ، وهو خاص بأجور ومرتبات العاملين فى الدولة.
الفصل الثاني ، ويعنى بالمستلزمات الخدمية والسلعية، وتنظيم المصروفات الجارية مثل سداد الإلتزامات التعاقدية ومقابلة تكاليف السلع المختلفة مثل الدقيق والوقود وخلافه وتوفير الخدمات المختلفة.
الفصل الثالث ويعنى بإدارة الأصول
بالنسبة للسودان ظلت الممارسة لحوالى ثمانين عاما إطاراُ عاما لحوكمة الصرف الحكومى إلى أن جاء العام 1977 وقرر الرئيس السابق نميرى تقنين تشريع لتنظيم الإجراءات المالية والحسابية فصدر قانون الإجراءات المالية والحسابية لسنة 1977 والغى لاحقاً بقانون الإجراءات المالية والمحاسبية لسنة 2007
بموجب الفصل السادس من القانون تخضع حركة تسيير الأموال العامة لوزارة المالية، وتكون الوزارة مسؤولة عن حفظ حسابات جميع مؤسسات الدولة بما فى ذلك الجيش والأمن والشرطة. ولها الولاية على مراقبة المعاملات المالية والنقدية والعينية والمصرفية والتأكد من تحقيقها للنظم والضوابط والالتزامات و الأصول . والوزارة أيضاُ مسؤولة عن مراجعة و إجازة تطبيق النظم المالية والمحاسبية لاى جهاز من أجهزة الدولة ومراقبة الانفاق العام وفقاً للإجراءات والمعايير المحاسبية المعتمدة والمساءلة المالية للتأكد من تخصيص و إنفاق الأموال العامة وفقاُ للأموال المخصصة.
أمر هام جداً يعالجه القانون ويحسم الجدل فى تقديري بشأن ما يثور ويدور حول الشركات التي تعمل بعيداً عن سلطة وزارة المالية، وهى تتعلق بولاية الوزارة على استثمارات الحكومة ومسؤوليتها عن الإستثمارات الحكومية.
ينص القانون صراحة على أن الوزارة مسؤولة عن استثمارات أجهزة الدولة فى أي شركة خاصة أو عامة أو مصرف أو أي جهة مماثلة وتتولى دفع نصيب أجهزة الدولة فى تلك الإستثمارات واستلام نصيبها من العائد.
نأتى الآن للتعليق على حديث الفريق البرهان بأنهم عرضوا على وزارة المالية أن تستلم الى آخر ما قال… ويقيني أن السيد الرئيس مع إحترامنا له لم يتلق نصحاً قانونياً حول هذا الأمر، فحديثه يبتعد كل البعد عن القانون بمنتهى الوضوح. إذ يمنع القانون الشركات التي تحوي اسثمارات حكومية منعا باتا التصرف فى الفوائض والأرباح الحكومية والعائد من استثماراتها ، كما يلزمها بسداد عائدات اسهمها سنوياً للوزارة بعد إعداد و إجازة الحسابات الختامية المراجعة بواسطة الأجهزة المختصة. إذن فعلى تلك الشركات تسليم عائدات أسهمها إلى الوزارة وفقا للاجراءات المحاسبية والمالية لا أن تتفضل على الوزارة وتقول لها: تفضلوا يا مالية نحن مستعدين ندفع ليكم. هذا مخالف للقانون ويعتبر جريمة بموجب أحكامه يعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى عشر سنوات والغرامة أيضاً.
خلق النظام المباد قدراً لا يستهان به من الإشكالات السلوكية فى التعامل مع المال العام وخلق أجيالاُ تجهل تماما حرمة التعاطي فى المال العام والمخاطر القانونية التي تنجم عن ذلك. لا أعتقد أن القائمين على أمر المال العام الآن يجهلون سلطاتهم ، خصوصا سلطات الوزارة فى الآتي :
الموافقة على مشروعات القوانين واللوائح والقرارات المالية والمحاسبية.
توجيه الإستفسارات وطلب المعلومات والبيانات وطلب المستندات والعقود التي تراها ضرورية من أي جهاز من أجهزة الدولة ووجوب الانصياع لطلبات الوزارة وتعليماتها فى هذا الشأن بالكيفية التي تحددها وفى المواقيت التي تعينها.
عدم جواز قيام أي جهاز من أجهزة الدولة بفتح أي حساب بالنقد المحلى فى أي مصرف إلا بعد أخذ موافقة الوزارة.
عدم جواز فتح أى حساب بالنقد الاجنبى الا بعد أخذ الموافقة المسبقة لوزير المالية.
لوزير المالية سلطة تجميد أو تحريك أي حساب بالنقد الاجنبى أو المحلي
أردنا بهذا العرض أن نورد إيجازاً لضوابط إدارة الأموال العامة فى جمهورية السودان والسلطات التي يمنحها القانون لوزارة المالية فى والولاية على المال العام ودحض الاعتقاد العام بجواز إدارة استثمارات حكومية أو استثمارات مشتركة خارج مظلة وزارة المالية. هذه خطيئة سلوكية وجريمة مالية يعاقب عليها القانون.
الخراب المؤسسي الذى يقع وزره على العهد البائد هو من قنن هذا السلوك الإجرامي كما شرعن فرية التحلل من جرائم المال العام والكسب غير المشروع والثراء الحرام رغم وجود هذا القانون الذى يحوي قدراً لا بأس به من الضوابط والقواعد والاحكام. وفى تقديري أن تفعيل نصوص هذا القانون سيقضى على كثير من الاساليب الفاسدة ويضمن تقديم المفسدين للنيابة العامة أو القضاء ، لكن الامر يحتاج الى إرادة عند الدولة للوقوف فى وجه الفساد والسيطرة على الأموال المهدرة خارج عجلة الاقتصاد السوداني
هل وصل الامر ببعضنا مرحلة كتم الضمير الحي ولا يبالى؟ هل ذهبت أخلاقنا فذهبت أمتنا وحقت فينا مقولة شوقي
إنما الامم الاخلاق ما بقيت فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا؟
أو بلغ الكبر ببعضنا اصمات الضمير وكف البصر عن جموع الكادحين
الملايين الحفاة العراة الجائعين
المشردين
فى السفح فى دنيا المزابل والخرائب ينبشون
إذن ، يا من صمت ضميره وكتم صوته فلتعش بهيمة بين البهائم أو دودة تولغ البقايا النتنة
فالضمير الحي هو العلامة الفارقة بين الانسان والدواب والدويبات
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …