اليساري في كآبته: الإعلان السياسي للشيوعي والحركة الشعبية
عبد الله علي إبراهيم :
عادني من قراءة الإعلان السياسي المشترك للحزب الشيوعي والجبهة الشعبية لتحرير السودان (٥ و٦ سبتمبر) وصفي لبيان أخير من الحزب الشيوعي بقولي في عنوان المقال “بيان كئيب آخر من الحزب الشيوعي”. فالإعلان السياسي كان كئيبا بمعنى الكلمة.
وقبل بيان وجوه تعاسته استطرد قليلاً. فلم أكن أعرف، وأنا أصف بيان الحزب الماضي بالكآبة، أنني إنما استقدم للخطاب التقدمي مفهوماً ذائعاً على أيامنا وهو “الكآبة اليسارية” (Leftist melancholy). وهو مفهوم أنشأه والتر بنجامين من قادة مدرسة فرنكفورت في الثلاثينات من القرن الماضي. وانبعث على أيامنا هذه ليعين في تحليل حالة اليسار بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وبلوغنا حافة نهاية التاريخ. وخلفيات المفهوم غاصة بعلم النفس الفرويدي الذي يفرق بين البكاء على فقد حبيب أو قريب (mourn) وبين المنخوليا-الكآبة التي هي عن فقد المرء لمثاله العقدي أو مشروعه. فالبكاء على الفقد الأول يزول بالزمن أما فقد المثال العقدي فيمكث المرء فيه مكوثاً.
ووقعت الكآبة على اليسار جراء فشله، ومثاله قد تهافت، من استيعاب طبيعة العصر لينمي نقداً سياسياً له ويبلور رؤية سياسية وأخلاقية لقدام. ويعيب المفهوم على اليساري أنه مملوك لمثال وتحليل سياسيين قديمين حجبا عنه، بعد سقوطهما، أن يستثمر إمكانات زمنه الحاضر ليحدث تغييرا جذرياً فيه. ومع ذلك فالكآبة لا تقف عند ارتهان الثوري لما تعود من زمانه الآفل والفشل في التصالح مع الطابع الخاص لزمانه فحسب بل ينجم عن حالة نرجسية معينة تنجم عن ارتباط وثيق بالماضي لا فكاك منه. فالثوري لا يقاتل، وهـذا حاله، لغد أفضل بل لأمس أفضل.
وتنشأ من تعلق الثوري بما انطبع فيه من أمسه حالة توله بحميته ومنطقه وقناعاته اليسارية بأكثر من حب للعالم الماثل أمامه الذي يزعم فرضاً أنه يسعى لتغييره بتلك الحمية، والقناعات، والمنطق. فيتكلس الثوري ويتجمد في عالم مجرد يمضه الشوق لماض تضرج بالمثالية. فإن حدث وارتبط اليساري بالعالم الذي يكتنفه في الحاضر فهو ارتباط باستحالاته لا بإمكانات ٌإشراقه وتحققها. فهو محجوب في كآبته عن خيرات التعبئة السياسية والتحالفات والتحولات التي خرجت من باطن دنياه الواقعية . . . تنادى. فخاطره ينشرح لا في عناق فسحة الأمل بل في تلمظ هامشيته وفشله.
هـذا استطراد لم أستطع مقاومة التوسع فيه ما قدرت للعلم بالشيء. وهو بسط قد يعيننا في فهم عقم اليسار من أن يكون رؤية في الوطن على ضوء بيان الشيوعي والحركة الشعبية. والأشياء بلا رؤية تنفق.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …