شاهد من أهلها : الأخوان .. والفساد … والعدالة
عبد الله عبد السيد :
كنت في زمرة الاخوان زهاء اربعة عقود ، جذبني ان غايتهم كانت تطبيق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عندما يتمكنوا من استلام السلطة .. وقد عاصرت نماذج فاضلة ومشرفة من الاخوان امثال مبارك قسم الله وعبد السلام سليمان والتجاني ابو جديري وحاج نور تغمدهم الله برحمته الواسعة وعوض كبوش بارك الله في ايامه .. كانوا يمثلون القدوة الحسنة باقوالهم وافعالهم وترسيخ مفاهيم القيم والمثل والاستقامة..
تقلدت مهام ومسئوليات في الداخل والخارج ، شاركت في مسارح العمليات حماية للعقيدة وصونا للوطن.
بعد ان نجح الاخوان في استلام السلطة حدثت تغييرات في مفاهيم وسلوك بعض الذين تولوا وظائف قيادية لأول مرة دون خبرة او موهبة ادارية وبغير المام بأبسط وابجديات النظم والقواعد المرعية في الخدمة المدنية واعتبار النصيحة تطاولا عليهم واستخفافا بهم. والبعض انهالت عليهم الاموال فحجبتهم عن اخوانهم ، ونشب الصراع بين الاخوان واصبحوا طرائق قدد .. واستطاعت عناصر من غير الاخوان ان يخترقوهم ويندسوا بينهم باسم الجبهة الاسلامية القومية ، ونجح بعضهم في تقلد وظائف سيادية وبقراراتهم التعسفية احالوا حياة السواد الاعظم من المواطنين الى محنة ومسغبة تمهيدا للانتخابات المزمعة بعد ان يكون المواطنون قد عانوا مرارة التوجه الحضاري عسفا وعلقما بالمسميات التي لا تعد ولا تحصى من الجنايات و الرسوم والضرائب وزيادة الاسعار.
كنت قد وصلت لمستوى عضوية مؤتمر الولاية والعام ولكني ادركت ان علي العضو ان يكون مجرد (امعة) ، عليه ان يوافق على القرارات المتخذة مسبقا من القلة القيادية الذين بايدهم مقاليد الامور ومن يبدي رأيا مخالفا يعتبر مناكفا ومعوقا وغير متعاون …فجلس في مقاعد المتفرجين اصحاب كفاءات علمية وخبرات عملية.
لقد بلغ حجم الفساد المالي والاخلاقي في ظل حكم الانقاذ مستوى غير مسبوق بخلاف تصنيف بعض الجهات الاجنبية لمستوى الفساد المتقدم ، تكفي التقارير السنوية الرسمية لديوان المراجع العام التي تستعرض في المجلس الوطني .. وقضايا فساد كثيرة لا تجد طريقها للمحاسبة والمحاكمة ..
اتجاوز عن حالات فساد وقفت عليها ، واركز على واقعة عايشتها وملم بتفاصيلها … كنت اتولى مهام المدير الاداري بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس … تلقيت توجيها من المدير العام بضمي للجنة المشتروات ، وبما أن مهام وظيفتي تتطلب تواجدي بمكتبي فقد كنت اقوم بالتوقيع على الفواتير التي بمقرها الزملاء ثقة فيهم وتنفيذا لتوجيه المدير العام بعضوية اللجنة.
بينما كان المدير العام خارج البلاد تأكدت من ثلاث وقائع ان الزملاء بالمشتروات يمارسون فسادا على مستوى كبير ، قمت بعرضها على نائبه وطلبت منه اعفائي من عضوية اللجنة لاستحالة التوفيق بين عضويتها والمهام الادارية التي تطلب التواجد في المكتب ، وقد استجاب .. وعندما عاد المدير العام كان المفترض ان يطلعه نائبه … لكن واصلت اللجنة عملها دون تحري وتحقيق في تلك الوقائع وكأن شيئا لم يحدث !! .
بعد اشهر جاء فريق مراجعة من ديوان المراجع العام وتوصل بموجب التقرير المؤرخ 22/2/2000م الى ان المال العام المبدد بالفساد بلغ على وجه التحديد والدقة 3.220.470.125 (ثلاثة مليار ومائتان وعشرون مليونا واربعمائة وسبعون الفا ومائة وخمسة وعشرون جنيها علاوة على مبلغ 97.000 (سبعة وتسعون الف) دولار امريكي .. وهناك مشتروات وهمية كجهاز سددت قيمته البالغة 106.808.906 (مائة وستة مليون وثمانمائة وسبعة الف وتسعمائة وستة جنيه بموجب فاتورة وشهادة باستلامه تماما حسب المواصفات المطلوبة واتضح للمراجعة بعد نحو ثمانية اشهر ان الجهاز لم يصل اصلا للبلاد !! ..
هل من مصدق للغة الارقام بان لجنة المشتروات قامت بتاثيث مكتب المدير العام (فقط) بأكثر من ثلاثمائة وخمسة عشرة مليون جنيه … وان مرتبه ومخصصاته الشهرية تفوق الخمسة عشر مليونا!! والمدير العام للهيئة الذي أعقب المدير السابق تم تعيينه اعتبارا من 17/9/2000م بمرتب اثنين مليون جنيه شهريا لكنه في 25/1/2001 (بعد اشهر وسبعة ايام ) يفترض ان تكون جملة استحقاقاته عن تلك الفترة ثمانية مليون وخمسمائة الف ولكن عصابة الهيئة مكنته من صرف اكثر من اثنين وثلاثين مليونا بعملية حسابية ليست لها صلة بالرياضيات .. ولم تكن له سابقة خبرة ولو للحظة واحدة في أي مرفق حكومي ، ذلك في حين كثيرون من المواطنين يعانون من المرض والجوع والعطش ، ليس في الولايات النائية بل حتى في قلب العاصمة القومية !! ويردد بعضهم : ( هي لله ، هي لله ( وتحكيم شرع الله ) !! .
بحصول فريق المراجعة على قائمة مجلس ادارة الشركة التي استلمت مبلغ الجهاز ولم تقم بتوريده وتسليمه، وبلغ حجم معاملاتها مع الهيئة اكثر من اثنين مليار ونصف ، اتضح ان من بين اعضاء مجلس ادارتها موظفة مسئولة بالهيئة وهي محررة الشهادة باستلام الجهاز !! وايضا اسم ابن المدير العام وامام اسمه حرف (د) دكتور ولم يكن ضمن العاملين بالهيئة بل كان لا يزال طالبا في الجامعة في سنته الأولى !! .
رغم ضخامة المبالغ المبددة بالفساد ، لم تتم محاسبة احد حتى الآن ، وقد انعكست على بعضهم كفلل ومزارع وحافلات .. وعلاوة على تقرير المراجعة هناك تقرير من لجنة تحقيق على مستوى وتقرير لجنة مكونة من رؤساء اللجان بالمجلس الوطني وكل تلك التقارير ضاعت (شمار في مرقة) !! فالقوانين التي تطارد المشردين والباعة المتجولين تغض طرفها عن بعض اباطرة الفساد !! بسبب ذلك الفساد وانسحابي من لجنة المشتروات ، اتهمت بانني تعاونت مع فريق المراجعة وتعرضت لمضايقات ، عندما رجعت من الاجازة وجدت في انتظاري خطاب استغناء عن عملي قبل نهاية الاجازة بخمسة ايام بحجة انه تمت اجازة الهيكل الوظيفي للهيئة ويترتب عليه اعادة النظر في الهيكل .. في حين ان الهيكل لم تتم اجازته الا بعد اكثر من عام ، ولم تشمل تلك الحجة احدا اخر من جملة العاملين الذين يقرب عددهم من الخمسمائة شخص .. ومن بينهم الذين استمروا في اعمالهم عناصر منهم : –
(1) رئيس قسم العلاقات العامة ، كان ضابطا بشرطة الجمارك وفصل لارتكابه جريمة خيانة الامانة .. وبعد التحاقه بالهيئة كان يعمل في نفس وقت الدوام الرسمي في موقع آخر !! .
(2) مدير شئون العاملين كان يجمع بين وظيفتين في مرفقين حكوميين في ذات وقت الدوام ويفترض انه اول من يدري ان الجمع بين وظيفتين كالجمع بين الاختين.
(3) الموظفة المسئولة التي حررت الشهادة باستلام الجهاز الذي سردت قضيته دون وصوله البلاد.
(4) موظف مسئول تمكن من الافراج عن بطاريات غير مطابقة للمواصفات مقابل رشوة.
(5) موظف تحصل على رسوم رسمية ولم يقم بتوريدها وتم فصله ثم اعادة تعينه بالهيئة.
(6) موظف شاب ارتكب جريمة خيانة امانة مع ضيف زائر كلفه بتوصيل مبلغ حوله لمنفعته اجبر على الاستقالة حرصا على سمعة مستقبلة ، تمت اعادته للعمل وفي المكتب التنفيذي للمدير العام !! .
(7) ضابط الترحيلات كان يعمل بادارة الخدمة الوطنية وارتكب جريمة تزوير باستخراج شهادة خلو طرف لاحدهم مقابل عشرين الف جنيه وتم فصله منها والتحق بالهيئة !!
(8) نائب المدير العام (موقع خطاب الفصل ) صاحب شركة خاصة تتعامل مع الهيئة وقد استغل فرصة غياب المدير العام بالخارج وكونه المدير العام بالانابة فاعلن بالصحف عن عطاء لاشياء غير موجودة في البلاد الا في مستودعاته !! عندما عاد المدير العام قام بالغاء اعلان العطاء لان الهيئة ليست في حاجة اليها !! .
اولئك (عينات ) من الذين اعتبروا جديرين بالاستمرار في وظائفهم بالرغم من ان كل الاتهامات الموجه لكل منهم مثبوتة بمستندات رسمية .. وفي غمرة اختلال المفاهيم للقيم اعتبرت الامانة التي ابديتها وانسحابي من لجنة المشتروات (جريمة) تستحق الفصل !! . ولو كنت قدطاوعت ابليس بمجاراة زملاء اللجنة بعد وقوفي على ممارساتهم لكا لكان من الممكن ان يصل نصيبي الى حوالي عشرين مليونا شهريا ولما فقدت وظيفتي !! ..
قال الله عز وجل : (اخرجوا ال لوط من قريتكم انهم اناس يتطهرون ) 25/ النمل فمنذ عشرات القرون فان المسفرين يعتبرون الطهارة فسادا ، ولعله الزمن الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم : (سيأتي زمن يصبح فيه المعروف منكرا والمنكر معروفا )
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …