هذا هو النضال الأكبر
جعفر خضر :
وإن كان إسقاط نظام الإنقاذ الحالي مهمة ضرورية لأسباب عديدة ليس هنا مكان تكرارها ، فإن هذه المهمة لا تمثل سوى نضال أصغر ينتهي بسقوط النظام ، بينما يتمثل النضال الأكبر في بناء الديمقراطية في منظمات المجتمع المدني المتناثرة في كل أرجاء الوطن ، الشيء الذي يعني بناء الديمقراطية في السودان . يهدف هذا المقال إلى التأكيد على أهمية بناء الديمقراطية في هذه المنظمات لتضطلع بدورها في دمقرطة المجتمع في عملية جدلية مستمرة ، ويهدف إلى توضيح إشكالية وإمكانية ذلك البناء من خلال تسليط بعض الضوء على المجتمع المدني بمدينة القضارف .
تلازم تناول الديمقراطية بتناول الأحزاب السياسية وإشكالاتها ، وإهمال منظمات المجتمع المدني ، و”ركن السودانيون إلى أسطورة مريحة تلك التي تقول بأنّ السوداني ديمقراطي بطبعه أو بفطرته ، وهذا ما يجعل حماية وتطوير الديمقراطية السودانية ، عملية لا تحتاج لعقلنة وتدخل ، ولكن تترك لحتمية التاريخ أو لطبيعة الأشياء ، أو القانون الطبيعي . ونتيجة لهذا الفهم ، ضعف الاهتمام بكل أشكال المنهجية ، والقصدية ، والتنظيم والوعي ، وبناء الأسس المطلوبة لحماية الديمقراطية”(1) ، وربما استسلم البعض إلى مقولة مضادة مفادها أن الديمقراطية لا تناسب السودانيين . ولكن طالما أن الديمقراطية هي أفضل النظم التي ابتدعتها الإنسانية ، حتى الآن ، فلا بد من عمل قصدي لتجذيرها في المجتمع السوداني .
يرى عبد العزيز حسين الصاوي أن (أي استراتيجية عمل سياسي منتج لتقدم غير قابل للانتكاس لا بد أن يكون مرتكزها الترافق بين إعادة استزراع مقومات الحداثة والاستنارة وإعادة تأسيس المشروع الديمقراطي)(2) ، ويعوّل الصاوي بجانب التعليم على منظمات المجتمع المدني ، إذ أن “اشتغال الأفراد الحر بالقضايا التي تهمهم مباشرة، مهما كانت بسيطة ، ودون ارتباطات أو ظلال سياسية مع أو ضد نظام معين ، ومع أو ضد حزب معين ، وإنما بدافع ذاتي، ينمي روح المبادرة والتفكير النقدي المستقل لدي المواطنين ، وهذه في الحقيقة بذرة تحرير عقل الإنسان وإرادته وإطلاق قدراته اللامتناهية على الإبداع . على هذا فإن للمجتمع المدني دور رئيسي فيما يتعلق بتفكيك المرجع القاعدي لأزمة الديموقراطية وهو ضعف ركيزتها في رصيد العقلانية والاستنارة السوداني”(3) .
ولكن ما هو المجتمع المدني ؟
تزايد الجدل حول مفهوم منظمات المجتمع المدني طوال ربع القرن الأخير ولا يزال .”إن استخدام تعبير المنظمات غير الحكومية Ngos وإن كان هو الاكثر شيوعا في العالم ليس هو التعبير او المصطلح الوحيد الذي يعبر عن نفس الظاهرة ، وهي مجموعة المنظمات التي تقع مابين الدولة والسوق ، وذات سمات معينة. فهناك مصطلحات وتعبيرات اخرى في انحاء العالم ، كما أنه لا يوجد اتفاق في الأدبيات حول مصطلح أو تعبير واحد . فالعالم قد وصل بالفعل إلى اتفاق حول قطاعين ، أولهما هو قطاع الدولة ، أو كما يعبر عنه القطاع العام ، وثانيهما قطاع السوق أو ما يعبر عنه بالقطاع الخاص ، ولكن القطاع الثالث الذي يتضمن تنظيمات ضخمة ومعقدة خارج نطاق السوق (غير هادفة للربح) وخارج نطاق الحكومة (مستقلة ذاتيا) مازلنا لم نصل بخصوصها إلى اتفاق”(4) . رغم عدم الوصول لاتفاق لكن جذر المفهوم هو أن المجتمع المدني يقع بين الدولة والسوق بمعنى أنه مستقل ذاتيا بدرجة كبيرة ولا يسعى إلى الربح ، لكن هنالك تعريفا آخر يرى أن “المجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات التطوعية التي تملأ المجال بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف”(5) .
“يقع المجتمع المدني راسيا بين المجتمع الطبيعى والسياسى وأفقيا بين القطاعيين العام والخاص، ورغم أن الحدود الفاصلة بين مختلف القطاعات غالباﹰ ما تكون مبهمة وغير واضحة المعالم فإن ثّمّة مساحات رمادية متنقلة بين القطاعات قد تتسم بدرجات متفاوته من التعاون أوالتعارض، ومن تطابق المصالح أو تباعدها”(6) .
يقول سعد الدين إبراهيم “أن هناك صوراً من التدين الشعبي، بما في ذلك ما يعرف بين المسلمين بالطرق الصوفية، تكون ممارساتها تطوعية اختيارية … بل ويذهب بعض المراقبين إلي أن الطرق الصـوفية والأوقاف الأهلية والتنظيمات الحرفية كانت تمثل المعادل الوظيفي التقليدي لما أصـبح يسمي بعد ذلك بمنظمات المجتمع المدني في العصور الحديثة”(7) . ويمد البعض تعريف المجتمع المدني “ليصل الى الاحزاب السياسية وتنظيماتها، في حين ان بعضاً آخر يعتبر هذه الأحزاب تستهدف الوصول إلى السلطة ، وتالياً كيف ستكون أحزاباً حاكمة ضمن إطار المجتمع المدني؟ ولهذا فهو يستبعدها”(8) .
ويتوسع محمد جمال الدين في التعريف قائلا (كلمة مدني مقابلة لكلمة رسمي. المدني هو كل ما دون الدولة، والرسمي هو كل ما دون المدني. فالمجتمع مدني في مقابل الدولة (الرسمي). وبهذا المعنى يكون المجتمع مدني في الريف وفي المدينة على حد سواء .. يتمظهر هيكليا في شكل منظمات عندها أعضاء مسجلون على الورق بغرض انجاز اهداف محدده وفق نظم وقيم ولوائح محددة غالبا ما تكون مكتوبة ومثال هذا التمظهر الهيكلي نجده في شكل منظمات “حديثة هشة، لكنها صاعدة” مثل منظمات حقوق الانسان، الاتحادات، الاندية الرياضية والثقافية و النقابات و يتمظهر المجتمع المدني هيكليا في شكل منظمات “طبيعية راسخة” مثل القبائل والعشائر وعندها نظم وقيم ولوائح غير مكتوبة)(9) .
وينبغي العمل على وضع لبنات في البناء الديمقراطي للتكوينات الماثلة حسب الطاقة الاستيعابية لكل . فإذا نجحنا في تأكيد ضرورة اختيار ناظر القبيلة من عدة خيارات ، حتى لو كانت من بين أفراد خشم بيت واحد ، مرحليا ، لكان ذلك خطوة إلى الأمام .
لكن لأغراض هذه المقال سنعرف المجتمع المدني بأنه مجموعة من المنظمات التطوعية الحرة التي تملأ الدائرة التي تختلف عن ، وتمس ، أضلاع مثلث الأسرة والسوق والدولة ، أي أنها غير عرقية وغير ربحية وغير حكومية ، تندرج فيها الأندية الرياضية والروابط الشبابية والجمعيات الثقافية والنقابات والاتحادات وغيرها .
بدأ نشاط منظمات المجتمع المدني/النشاط الأهلي بالسودان في الحقبة الاستعمارية . وعلى خلفية الرأي الذائع الذي ينحو إلى اعتبار منظمات المجتمع المدني مستجلبة من الغرب ، وأنها انتشرت في بلادنا ابتداء من تسعينات القرن الماضي ، يقول محمد إبراهيم نقد (من أراد ان يؤرخ لميلاد منظمات المجتمع المدني في السودان، ويستخدم المصطلح بأثر رجعي، فليبدأ بشهادة نادي الخريجين عام 1918م ، وهي شهادة ميلاد أصلية ليست تسنينا أو بدل فاقد)(10) ، وانتشرت من بعد ذلك منظمات المجتمع المدني في شكل : جمعية الاتحاد السوداني ، وجمعية اللواء الابيض ، والجمعيات الثقافية ، وأندية الخريجين ، وأندية العمال، والأندية الرياضية، وأندية الأحياء ، والجمعيات الخيرية ، والاتحادات المهنية ، والجمعيات التعاونية ، والفرق المسرحية ، ومؤتمر الخريجين ، والنقابات .
نماذج من منظمات المجتمع المدني بالقضارف:
تتميز القضارف بتنوع عرقي وثقافي فريد ويوجد بها عدد من نظارات القبائل وعدد من الطرق الصوفية ، ويقطنها مواطنون تعود جذورهم إلى القضارف وإلى كل أنحاء السودان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، بل وبها سودانيون أصولهم أثيوبية ، وأريترية ، وصومالية ، وغرب أفريقية ، وتركية ، ومصرية ، ويمنية وإغريقية ، وأرمنية ، وهندية ؛ ويجدر بالقضارف أن توصف بأنها سودان مصغر .
نادي القضارف:
سيحتفل نادي القضارف ـ الذي تأسس في العام 1924ـ بعيده المئوي بعد بضع سنوات . أصدرت وكالة سونا للأنباء ـ ولاية القضارف ـ وثيقة بعنوان (نادي القضارف: التاريخ والدور الريادي .. بمناسبة مرور سبعين عاما على تأسيسه)(11) ، ولخصت الوثيقة تاريخ النادي ، ونجد أن تاريخه يمتلئ بالفجوات الشاسعة ، وذلك لأن جمعيته العمومية لم تكن تنعقد باستمرار ، ولو كانت اجتماعات الجمعية تنتظم لوفرت خطابات الدورة والميزانية مادة تؤرخ لهذا النادي العريق .
ولكن لم يكن النظام الاستعماري يسعى لترسيخ الديمقراطية في البلاد . وكانت العقلية السودانية ، التي تتسم بالكرم والمروءة من ناحية ، وتفتقر إلى المؤسسية والديمقراطية من ناحية أخرى ، هي العقلية المسيطرة على أذهان النخبة السودانية المثقفة في ذلك الوقت بل وربما إلى الآن .
ويقتصر دور نادي القضارف ، الذي احتضن الحركة الوطنية في نشأتها الباكرة ، يقتصر دوره الآن على لعب الورق تقريبا . لم تغب فيه الديمقراطية فحسب بل والفعل الإيجابي كذلك ، ولولا مبناه العتيق لأصبح النادي في خبر كان .
لجنة التعليم الأهلي:
وفي بداية أربعينات القرن الماضي “وفي إطار مؤتمر الخريجين انبثقت اللجنة الشعبية للتعليم الأهلي التي يرجع إليها فضل القيادة والريادة في إنشاء العديد من المدارس المتوسطة آنذاك والمدارس الثانوية بنين وبنات”(12) .
لقد كانت لجنة التعليم الأهلي نقطة الانطلاق الأقوى لنشاط المجتمع المدني بالقضارف ، لا سيما وأنها اشتغلت على التعليم الذي سيشكّل منصة لانطلاق المزيد من منظمات المجتمع المدني مستقبلا . تكونت لجنة التعليم الأهلي في بداية أربعينات القرن الماضي من شيوخ وتجار مدينة القضارف ، واستطاعت أن تنشئ أول مدرسة متوسطة عام 1953م وهي “المدرسة الأهلية المتوسطة” في ملحمة نضالية رائعة . انفعلت لجنة التعليم الأهلي ـ التي ترأسها الشيخ “محمد حمد أبوسن” ناظر الشكرية ـ بقضية التعليم وتفاعلت إيجابا مع المؤسسات الحديثة ، فقد وقّع الشيخ “أبوسن” على نداء المواطن الخواجة “كيكوس جوانديس” التاجر بسوق القضارف الخاص بإنشاء سينما ، نظير تقديم إعانة شهرية لتسيير المدرسة الأهلية المتوسطة ، وعلى أن تؤول السينما بعد مضي عشر سنوات للمدرسة الأهلية كوقف ، بل تقدم الشيخ “أبوسن” والقاضي الشرعي “علي سالم” وناظر المدرسة الأولية وعدد من الأعيان والتجار ـ نيابة عن شعب القضارف ـ بطلب إلى جناب مفتش مركز القضارف ـ بتاريخ 3/5/1953 ـ راجين التصديق بإنشاء دار السينما بالقضارف ؛ وتم إنشاء سينما التعليم الأهلي ، والتي اشتهرت باسم “سينما كيكوس” ، وآلت السينما للمدرسة الأهلية حسب وعد كيكوس . عملت هذه السينما لنصف قرن من الزمان حتى تم هدمها مع رفيقتها السينما الوطنية في حقبة الإنقاذ هذه ، وليتم بيع أراضيها للاستثمار التجاري ، لتمسي القضارف مدينة بلا سينما .
أنشأت لجنة التعليم الأهلي/الشعبي ـ بعد المدرسة الأهلية ـ عددا مقدرا من المدارس المتوسطة والثانوية مثّلت الركيزة الأساسية للتعليم بالقضارف ، ورغم كل هذا الجهد الضخم الذي قامت به لجنة التعليم الأهلي ، إلا أنه “لم تكن هنالك انتخابات للجنة بل كانت العضوية بالاختيار والرغبة”(13) ، وفي تقديري هذا هو “كعب أخيل” منظمات المجتمع المدني الذي أودي ، ولا يزال يودي ، بها . إن القيم الخيِّرة المتمثلة في الكرم والمروءة مثلت روافدا لكل تلك المنجزات ، إلا أن استمراريتها على الوجه الأمثل كانت تتطلّب المشاركة والمؤسسية والديمقراطية . ولنا أن نتساءل ـ الآن ـ كيف ضاعت سينما التعليم الأهلي ؟ ومن المسئول عن ضياعها ؟ وكيف استطاع أن يتصرف في وقف ؟ . إن غياب الانتخابات يستتبع غياب الجمعيات العمومية وغياب خطابات الدورة والميزانية وغياب المسئولية والشفافية والمساءلة .
منظمات خدمية وفنية ورياضية :
لا تنحصر مشكلة غياب الديمقراطية في لجنة التعليم الأهلي وحدها ، بل تطال جل منظمات المجتمع المدني ، إن لم يكن كلها . فقد تم حل اتحاد عام مزارعي القضارف ـ الذي تأسس منذ أربعينات القرن الماضي ـ مؤخرا دون أن يجد الحل مقاومة تذكر ، إذ أن افتقار الاتحاد للديمقراطية أدى إلى انفضاض معظم المزارعين من حوله وضعُفت رغبتهم في الدفاع عنه .
وظلت “لجنة تسيير” تسيّر نشاط “اتحاد الفنانين” طوال السنوات الخمس الأخيرة من عمر الاتحاد الذي تأسس عام 1970 م ، لينعقد اجتماع الجمعية العمومية يوم 23/7/2016 ، بعد أن وقع أعضاء الجمعية العمومية على قبولهم خطاب الميزانية على علاته .
وتأسست هيئة نداء القضارف في أعقاب الانتفاضة عام 1985 ونفذت إضرابا عاما لحل مشكلة مياه القضارف ، ونجحت في التأثير على الحكومة في الخرطوم وضم القضارف للشبكة القومية للكهرباء سنة 1987 ، ورغم تحقيق الهيئة لهذي النجاحات ، لم يتم تنظيمها وهيكلتها وقبل أن ييتبلور شكلها الديمقراطي قطع نظام الإنقاذ مسيرة تطورها . وفي مجال المسرح نشأت فرقة “الأرض الطيبة” المسرحية في السبعينات ، ثم فرقة “ساريا” وفرقة “بيت النمل” في الثمانينات ، وجميعها أضحت أثرا بعد عين .
وبدأت الأنشطة الرياضية منذ بدايات القرن الماضي بفريق أورطة العرب الشرقية (فرقة الجيش) ، إلى أن تكون أول نادي غير عسكري في الثلاثينات من القرن الماضي باسم “كف الأسد” والذي انقسم في العام 1943 إلى أندية السهم والأهلي والأعمال الحرة ، ليتأسس الاتحاد المحلي لكرة القدم بالقضارف 1946م(14) . توجد بمدينة القضارف اليوم 10 أندية رياضية ـ لكرة القدم ـ بالدرجة الأولى ، و10 أندية بالدرجة الثانية ، و16 ناديا بالدرجة الثالثة ، هذا بخلاف الأندية غير المنضوية تحت لواء الاتحاد ولكنها مسجلة لدي مسجل الهيئات الشبابية والرياضية . يتم انتخاب مجالس إدارات الأندية بإشراف مفوض الهيئات الشبابية والرياضية كل 3 سنوات ، لكن الالتزام بالممارسة الديمقراطية لا يزال ضعيفا جدا . وينصب جهد الأندية في البحث عن أحد الأثرياء أو أحد كبار المسئولين ليكون رئيسا للنادي بغية توفير المال اللازم ، بدلا من الاتجاه لتحريك أعضاء النادي للمشاركة في إدارته وابتكار مصادر تمويله وجعله ثقافيا واجتتماعيا ورياضيا ، بحق وحقيقة ، كما هو مكتوب على لافتته .
اتحاد المعوقين حركيا:
انعقد اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد المعوقين حركيا بولاية القضارف ـ المسجل وفقا لقانون تنظيم العمل الطوعى والإنسانى لسنة 2006 ـ يوم 11/7/2015 ، متأخرا ثمانية شهور عن موعده ، ولم ينعقد الاجتماع عن طيب خاطر ، وإنما إثر شكوى تقدم بها رئيس اتحاد المعوقين محلية وسط القضارف للمسجل العام لمفوضية العون الإنساني القومي والذي وجه بعقد الاجتماع ، وذلك بعد أن تماطل اتحاد الولاية في عقد اجتماع الجمعية العمومية . ونتيجة لضغوط قانونية وإعلامية حدث تقدم في الدورة الثانية (2010 ـ 2015) إذ صدر خطابا الدورة والميزانية مطبوعان ومختومان ، بعكس الدورة الأولى (2006 ـ 2010) التي لا يوجد خطاب دورتها ولا ميزانيتها رغم أن الاتحاد يتعامل بأموال كبيرة تخص شريحة مهمة .
جاء خطاب الميزانية في ورق غير مروّس (لا يتصدره اسم الاتحاد ولا شعاره) وباختلالات تُرى بالعين المجردة ، ورغم أن قانون تنظيم العمل الطوعي والإنساني للعام 2006 يشدد على مراجعة السجلات المالية ، ومنح المسجل مهام وسلطات تضمنت مراجعة سجلات أى منظمة طوعية أو خيرية أو منظمة مجتمع مدنى تعمل فى مجال العون الانسانى ، وأوجب القانون على المنظمة أن تقدم للمسجل أو المفوض صورة من الموازنة السنوية معتمدة بوساطة مراجع قانونى ؛ إلا أن هذه النصوص غير مفعّلة لمكافحة الفساد ، بل تستخدم لإخضاع منظمات المجتمع المدني للسلطة ، بل وإفسادها ، خاصة المادة التي اشترطت موافقة المفوضية على أي تمويل يرد للمنظمة .
يستطيع الأعضاء المنضوون للاتحاد مواصلة الضغط وتحريك الغالبية المتضررة لإزاحة القلة المسيطرة ، وتظل الضمانة الوحيدة لتوجيه الاتحاد تجاه خدمة قواعده هي ترسيخ الديمقراطية ومشاركة الأعضاء الحقيقية في إدارة اتحادهم واختيار قيادتهم ومراقبتها ومحاسباتها .
نقابات :
عدّد خطاب الدورة للهيئـــة النقابية الفرعية لعــــمال المهن الصحية (2011 – 2016م) ، وتحت عبارة “سفرإنجازات الفرعية” ـ عددا من الإنجازات . ولكن حرصت قيادة نقابة المهن الصحية على عدم فتح النقاش في اجتماع الجمعية العمومية ، الذي انعقد مؤخرا ، حتى لا يفنّد لها العاملون “سفر الإنجازات” ويواجهوها بأن تكلفة إيجار الصيوان المهترئ والناقص بلغت 200جنيها ولذلك فضّل أكثر العاملين استئجار صيونات تجارية ، أمّا قوت العاملين والسلة والغاز فقد تبيّن أنها سياسات حكومية وليس للهيئة إلا أجر المناولة ولكنها مناولة مكلفة إذ أنها تضيف رسوم من عندها ، واحتج البعض على إجبارهم على صرف مرتباتهم من بنك فيصل الإسلامي ذي الخدمة المتردية . أما ما يخص أحداث أب كرشولة فاتضح أنه قد تم استقطاع مبلغ 10جنيهات من مرتبات العاملين دون رضائهم ، وهذا ما أخفاه خطاب الدورة الذي يفتقر إلى الشفافية .
تشهد انتخابات النقابات ـ في ظل قانون المنشأة الذي فرضه نظام الإنقاذ بغرض السيطرة على النقابات ـ تشهد عزوفا كبيرا من العاملين ، بسب صورة ذهنية تشكلت بأن لا جدوى من الانتخابات ، وأن المشاركة فيها تعطي شرعية للنقابة ، واكتفت الأغلبية بالمقاطعة السلبية ، في حين لم يسع أغلبهم لتكوين نقابات موازية . ولعل لجنة الأطباء مثلت استثناء ، كنقابة موازية ، نشطت لبعض الوقت إبان إضراب أطباء القضارف قبل سنوات .
وهنالك استثناء آخر يمثله “تجمع المعلمين لتصحيح مسار العمل النقابي” الذي تأسس في 3 مارس 2003 ، كنقابة موازية لنقابة المنشأة . تأسس التجمع إثر توقيع عدد كبير من المعلمين على وثيقة تناولت قضايا التعليم والمعلمين ، ثم انعقد مؤتمر من مناديب المدارس أفرز قيادة “تجمع المعلمين لتصحيح مسار العمل النقابي” التي تتكون من 19معلما ومعلمة ، ونظم التجمع عددا من الإضرابات ، وناهض مشروع برج المعلم وأصدر الكثير من البيانات التي تخاطب قضايا التعليم المختلفة ، مما أحدث حراكا نقابيا كبيرا . واجهت السلطة التجمع بالنقل التعسفي والاعتقالات . ولكن المشكلة الأهم تتمثل في عدم تجديد قيادة التجمع منذ عهد التأسيس ، انتقل البعض إلى رحمة مولاه ، ونزلت الأغلبية المعاش ، فاندثر التجمع ، وأضحى يحتاج إلى إعادة التأسيس من جديد .
منتد شروق الثقافي:
نظم منتدى شروق قرابة ال300 فعالية في مسيرته التي ستكمل عامها العاشر في يونيو المقبل . وربما يكون المنتدى هو أكثر منظمة مجتمع مدني ، ليس في القضارف فحسب ، بل وفي السودان ـ بذلت خطابات دوراتها وميزانياتها للجميع في المواقع الالكترونية . وفي تقديري أن أهم إنجازات منتدى شروق هو انتظامه في عقد جمعياته العمومية وإتاحة وثائقه للكل ، وهو الجانب الذي لم ينتبه إليه سوى قلة من المهتمين بالمجتمع المدني ، بينما انتبه كثيرون إلى المناهضة السلمية التي نظمها المنتدى ضد اعتداءات السلطة وأجهزتها الأمنية عليه .
بدأ المنتدى نشاطه الراتب في يوم 2/6/2007م ، وتصاعدت أنشطته ، من حيث الكم ، خلال الدورتين الثانية والثالثة ، حتى نص تقرير حالة السودان (التقرير السنوي لمركز الدراسات السودانية للعام 2009) نص على أنّ “هنالك جماعات ثقافية في الولايات قدمت نشاطا ثقافيا منتظما وكثيفا مثل منتدى شروق القضارف الثقافي”(15) . ثم انخفض منحنى النشاط خلال الدورات الثلاث اللاحقة بسبب تدخل الأجهزة الأمنية وإيقاف نشاط المنتدى ثم عودته مع التضييق والحصار . وبعد أن حدث نوع من التكيف مع الوضع الجديد ، بدأ منحنى النشاط في التصاعد ابتداء من الدورة السابعة .
لكن ظلّت جملة أعضاء الجمعية العمومية الذين يحق لهم التصويت في انخفاض ثابت على مر الدورات ، لأسباب موضوعية تتمثل في الحصار الأمني وحرمان المنتدى من إيجاد مقر ، ولأسباب ذاتية تتمثل في ضعف تجويد الأنشطة والقصور الإعلامي .
على مدى الدورات العشر تسنّم اللجنة التنفيذية عدد 51 عضوا مختلفا ، تبادل رئاستها ستة أعضاء . أكثر عضو دخل اللجنة التنفيذية ثماني مرات من عشر ، ويليه 7 مرات ، وعضوان 6 مرات ، وعضوان دخلوا 5 مرات ، وواحد 4 مرات ، واثنان 3 مرات ، و 17 عضوا دخلوا مرتين ، 25 عضوا مرة واحدة . جرى انتخاب سري مرة واحدة في نهاية الدورة الثانية 2009 .
كان ختام الدورة الأولى عبارة عن نظام أساسي مطبوع وتعديلات مقترحة وقائمة فعاليات منجزة ، ولم تكن هنالك وثائق قائمة بذاتهما عنوانها خطاب الدورة والميزانية . بنهاية الدورة الثانية تمت إتاحة خطابي الدورة والميزانية للأعضاء قبل خمسة أيام من انعقاد اجتماع الجمعية العمومية . لكن حدث تراجع كبير بنهاية الدورة الثالثة حيث أتيح خطاب الدورة لأعضاء الجمعية العمومية في ذات يوم الاجتماع ولم تتم طباعة خطاب الميزانية وإنما تمت تلاوته للأعضاء مباشرة ، ثم انتظم صدور خطابات الدورة والميزانية قبل مدة وصلت إلى 15 يوما قبل الاجتماع .
تضمن خطاب ميزانية الدورة الثانية ـ مارس 2009 ـ نقدا ذاتيا جليا حينما نص على (ولا شك أنّ قصورا كبيرا قد اعتور عمل المنتدى فيما يتعلق بالسجلات الحسابية ، إذ أن المكتب التنفيذي اعتمد على النفير والفزع عند المنتديات الكبيرة ، وظل هذا الملف في عدة أيدي ، مما أدى إلى عدم الالتزام الدقيق بتسجيل الإيرادات والمصروفات وهذا من أبسط قواعد العمل المحاسبي السليم .. أخوف ما نخافه أن تنتقل عدوى أدائنا غير الدقيق فيما يتعلق بالمال إلى المكتب التنفيذي القادم ، وها نحن نعترف بقصورنا وننبه القادمين) . خف النقد الذاتي مع اشتداد الهجمة الأمنية ، وبدأ في العودة مع هدوء المناهضة ومواجهة مشكلة المكان وانحسار النشاط الراتب .
تكرر القصور بعدم التسجيل الدقيق للحسابات وذات التحذير في خطاب ميزانية الدورة الرابعة والخامسة . وتحسنا ملحوظا حدث في خطاب ميزانية الدورة السادسة ، وتطوّر الأمر أكثر في خطاب ميزانية الدورة السابعة ، وبلغت الدقة ذروتها النسبية في خطاب ميزانية الثامنة ، وحدث قدر من التراجع في خطاب ميزانية التاسعة الذي تمت إجازته بالأغلبية وليس الإجماع .
لعل أحد أهم ما تميز به المنتدى أنه تعامل مع مشاركات الأعضاء في الدورات الخارجية والداخلية بمدخل مختلف . لقد توفرت 13 فرصة لمشاركات خارج السودان ابتداء من الدورة الخامسة وحتى الدورة التاسعة ، تبادلها 9 أعضاء من المنتدى . وعمل المنتدى على تطوير آلية لتوزيع الفرص بعدالة بين أعضائه .
وقد ضمّن المنتدى لائحته الداخلية الفقرة التي تنص على (عند مشاركة عضو باسم المنتدى في ورشة أو دورة تدريبية أو فعالية بعينها يجب أن يؤول 40% ـ على الأقل ـ من فائض المصروفات الأساسية لخزينة المنتدى . وأما إذا كان هنالك حافز نقدي أو عيني فيؤول كله لصالح المنتدى) ، مثّل الإيراد من حافز أو مصروف مشاركات الأعضاء في خلال الدورات الخمسة الأخيرة 4407ج + 710$ مقارنة بـ 3760ج اشتراكات الأعضاء خلال ذات الدورات ، أي أن إيراد حوافز وفوائض المشاركات يمثل حوالي ثلاثة أضعاف الاشتراكات . وقد حقق ذلك مصلحة مادية عامة خلقت قدرا من الرضا ؛ استفاد المنتدى هنا من فوارق تقدير العالم الأول للصرف مع تقدير عالمنا الثالث الذي يمثل لفرده محض السفر إلى الخارج ـ مجانا ـ فائدة وأي فائدة . والسالب في الأمر حالة ضعف الاشتراكات التي هي عصب حياة منظمات المجتمع المدني .
ولكن يؤخذ على اللجان التنفيذية للمنتدى أنها كانت حريصة على تبرئة ذمتها المالية أمام شركائها الممولين ، أكثر من حرصها على تبرئة ذمتها أمام جمعيتها العمومية ، بدليل أن ميزانيات بعض المشاريع الممولة ظهرت منفصلة ولم تظهر ضمن خطابات الميزانية ، رغم أن حجم التمويل في أحدها وصل إلى أكثر من عشرة أضعاف إيرادات الدورة . ولا يزال هنالك قدرا من الضعف في استحضار النظام الأساسي واللائحة الداخلية في العمل اليومي للمنتدى .
يستطيع منتدى شروق أن يتلافى أوجه قصوره الظاهرة للعيان والمعترف بها بتدعيم الشفافية ، وإحياء قيمة المساءلة إذ لا معنى لشفافية بلا مساءلة ؛ وبترسيخ الديمقراطية يمكن للمنتدى أن يجعل من تجربته نموذجا يحتذى .
خاتمة :
يتسم المجتمع المدني في القضارف بالضعف الشديد . بعض منظمات المجتمع المدني ، إن سلمنا أنها كذلك ، عبارة عن لافتات لا غير ، ولا يدري أحد الأموال التي تجري بين يديها ، من أين تأتي ؟ وإلى أين تذهب ؟ وبعضها الآخر منظمات لها أنشطة ممولة من الخارج ، تعمل حين تحصل على التمويل وتتوقف بتوقفه ، وفي الغالب هي منظمات محتكرة بواسطة “شلة” أو “أسرة” ، وبعضها أضحت منظمات حكومية تحركها السلطة أنّى شاءت .
وكثير من منظمات المجتمع المدني ، روابط شبابية وأندية رياضية وجماعات ثقافية وغيرها ، تفتقر إلى المؤسسية والديمقراطية ، تنشط بنشاط أفراد مبادرين وتركد بفتور همتهم . لذلك يجب على الحادبين على الديمقراطية والحداثة توجيه الجهد المخطط القصدي لبناء الديمقراطية في هذه المنظمات ، بحيث يكون الهدف الأساس ليس الإتيان بالديمقراطية الرابعة ، وإنما هو المحافظة عليها من الضياع ، وذلك بالعمل المباشر على تحريك ركود المؤسسية وتفعيل الديمقراطية في هذه المنظمات ، ليس في القضارف فحسب ، بل وفي كل أرجاء السودان .. وهذا هو النضال الأكبر .
مراجع:
(1) حيدر إبراهيم علي ، الديمقراطية السودانية : المفهوم ـ التاريخ ـ الممارسة ، دار الحضارة للنشر ، الطبعة الأولى ، 2013 ، ، ص6
(2) عبد العزيز حسين الصاوي ، الديمقراطية المستحيلة معا نحو عصر تنوير سوداني ، دار عزة للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، 2012 ، ص19
(3) المصدر السابق ، ص25
(4) د. أماني قنديل ، دور المنظمات غير الحكومية في التنمية ، http://www.albayan.ae/one-world/1999-06-11-1.1077177
(5) تعريف سعد الدين إبراهيم أنظر د. بلعيور الطاهر ، المجتمع المدني كبديل سياسي في الوطن العربي ، مجلة العلوم الإنسانية “نسخة الكترونية” ، العدد العاشر ، نوفمبر 2006 ، ص123 ، http://www.webreview.dz/IMG/pdf/_4-5.pdf
(6) محمد بشير حامد ، نحو إستراتيجية أشمل للحراك الطلابى فى السودان ، http://mbhamid.com/?p=871
(7) سعد الدين إبراهيم، المجتمع المدني والمؤسسة الدينية والمطلقات في العالم العربي، http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/2001/4/27/
(8) عبد الرحيم شعبان ، مفهوم المجتمع المدني ..بين التنوير والتشهير !! http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=128248
(9) محمد جمال الدين حامد ، الانسان والمجتمع والدولة في السودان ، http://www.sudaress.com/sudanile/1747
(10) محمد إبراهيم نقد ، حل أزمة السودان يتمثل في دولة مدنية ، موقع الحوار المتمدن ، ttp://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=3686
(11) وكالة سونا للأنباء ـ ولاية القضارف ، نادي القضارف: التاريخ والدور الريادي .. بمناسبة مرور سبعين عاما على تأسيسه ، يوليو 1995 .
(12) بابكر محمود النور وآخرون ، القضارف : رجال ومواقف ، إصدارة عن التعليم الأهلي ـ الشعبي ، دون تاريخ ، ص5 .
(13) نفس المصدر ، ص9
(14) حسن علي سر الختم ، تاريخ القضارف (مخطوطة غير منشورة)
(15) حالة السودان ، التقرير السنوي لمركز الدراسات السودانية للعام 2009
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …