المفكر السودانى د. عبدالله النعيم: علمانية الدولة فريضة إسلامي
منوعات – الشاهد :
يرى البروفيسور عبدالله النعيم الاستاذ بجامعة إيموري الأمريكية ان الدولة الدينية أمر مستحيل وان علمانية الدولة ترتفع الى مستوى الفريضة لحضارية بمنطق الاسلام نفسه.
في هذا الحوار الذي تم عبر البريد الإلكتروني هو قراءة أولية لرؤى النعيم، التي قدمها في كتابه “الاسلام وعلمانية الدولة” والذي يرصد فيه بين التاريخ والواقع سيرة الدولة في الاسلام ويخلص الى نتائج ربما تسهم في حل اشكاليات المصطلح المراوغ، سواء كان العلمانية او الدولة الاسلامية.
لا يكتفي النعيم بقراءة نظرية تتكيء على الموروث بل يعمد الى فك ضفائر الماضي التي تغطي رأس الانظمة الاسلامية الراهنة في كل من اندونيسيا وتركيا والسودان. ولا ينسى التوقف امام التجربة الإسلامية الأولى في ادارة شئون المجتمع في “المدينة المنورة” والتي يراها تجربة سياسية لا دينية ولا يمكن استعادتها لانها كانت مرتبطة بالنبي صلي الله عليه وسلم
– هل لك أن تحدد للقارىء المصطلحات الأساسية التي ترتكز عليها في خطابك الدولة لماذا اخترت نموذج الدولة الوطنية كما برز في التاريخ الأوروبي؟
أتحدث عن النموذج الأوروبي للدولة الوطنية لأنه نظام الحكم الذي يعيش في ظله كل المسلمين منذ نهاية فترة الاستعمار. فمع تحقيق الاستقلال لم تحاول أي من الدول ذات الأغلبية المسلمة العودة لنظم الحكم التي كانت سائدة في العالم الاسلامي قبل الاستعمار وقد مضت عقود طويلة منذ الاستقلال ولا ذكر هناك لأي تغيير محتمل في طبيعة الدولة. إذن فخيار النموذج الاوروبي هو خيار عامة مجتمعات المسلمين اليوم وليس خياري.
– الدولة شكل من اشكال القهر ولم يشارك المجتمع الراهن في التفاوض حولها؟
صحيح ان الدولة شكل من اشكال القهر ولكن هناك تفاوتا بين الدول بقدر ممارستها للديمقراطية، والشفافية والمحاسبة، فكلما تحققت هذه المواصفات للدولة تصبح على اقل قدر ضروري من القهر لحفظ الأمن، وفض المنازعات بين المواطنين.
وأنا أرى أن المواطنين هم المسئولون عما اذا كانت دولتهم وثنا حداثيا مفروضا عليهم ام انها جهاز ناجز لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية للجميع، واستمرار الاستعمار الفكري والوجداني بعد زوال الاستعمار العسكري السياسي المباشر مسئولية الشعوب الإسلامية ولا يجوز القاء اللوم على الاستعمار الأوروبي لان هذا الاستعمار كما قال مالك بن نبي: “نتيجة التخلف والضعف الداخلي في المجتمعات الاسلامية وليس السبب في التخلف والضعف”، وجميع المجتمعات الانسانية بحاجة الى الدولة بشكل من الأشكال لحفظ الأمن وتقديم الخدمات الضرورية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان تكون الدولة قهرية واستبدادية تجاه شعبها وانا ارى ان كل شعب مسئول عن دولته “فكما تكونوا يول عليكم”.
الشريعة
– كيف يمكن اتباع الشريعة الآن؟
مصطلح الشريعة يشير إلى مفهوم “هداية ربنا سبحانه وتعالى للبشر بحسب طاقة وامكانات كل مجتمع في مرحلته التاريخية”، ومن هذا المنظور فإن البشرية تتطور في فهمها وممارستها للشريعة بحسب الإطار التاريخي للمجتمعات. فكمال الشريعة الاسلامية هو في مقدرتها على التطور، وليس في ثباتها وجمودها على حالة واحده. فاذا كانت هناك صعوبة في تطبيق الشريعه فالسبب هو قصور الفهم البشري للشريعة في ضوء احتياجات وطاقة المجتمع المعين. ومع ذلك فالشريعة ملزمة لكل مسلم ومسلمة وليست الواجب الجمعي للمجتمع أو مؤسسة الدولة. والتزام كل فرد مسلم هو تطبيق الشريعة كما يفهمها هو أو هي ويؤمن بها، فالمسلمون مسئولون بشكل فردي.
وأنا أعتقد بوجود حاجة لإعادة النظرفي فهمنا لاحكام محددة، وليس في كل احكام الشريعة فعلينا اعادة النظر في الاحكام المتعلقة بحقوق المراة، وحقوق غير المسلمين وحرية الاعتقاد. فما عليه فهمنا لهذه الاحكام الآن فهم بشري يمكن اعادة النظر فيه في اطار الإسلام نفسه.
– العلمانية: لماذا دعوت الى علمانية الدولة وليس علمانية المجتمع ؟
دعوتي لدولة علمانية تأتي لتمكين المسلمين من الحياة وفق فهمهم للشريعة في صدق واخلاص من غير رهبة او رغبة الدولة. فالدولة العلمانية هي التي لا تتخذ موقفا في أي موضوع يتعلق بالدين، وتسعى لأن تكون حيادية قدر الإمكان فيما يتعلق بالأديان المختلفة.
الصفة الأساسية للدولة التي أعنيها هي ألا تميز بين مواطنيها على أساس العقائد الدينية – فلا تفضل موقفا في امور الدين على موقف آخر.
والمجتمع من ناحية أخرى يمكًن افراده من ممارسة معتقداتهم الدينية سواء كانت اسلامية او مسيحية او هندوسية بحرية. فالمجتمع هو مجال الممارسة والتجسيد لقيم الدين المعتقدات والممارسات الدينية لكل حسب معتقداته ومستواه في التطبيق، والمجتمع بالنسبة لي عبارة عن جماعة من المؤمنين، وليس “جماعة مؤمنة” لأن الكيان الجمعي مفهوم مجازي ولا يمكن أن يؤمن أو يعتقد أو يفكر أو يشعر مثل الأفراد.
الهدف عندي هو حماية امكانية الإيمان الصادق في المعتقدات والممارسات للأفراد المؤمنين، عن طريق حماية الافراد من خطر الإجبار على التدين بواسطة الدولة أو المجتمع.
والدولة المحايدة في امور الدين والمجتمع المتسامح وسيلتان ضروريتان لهذه الغاية. وعن طريق تنظيم الحياة الاجتماعية، وحفظ السلم وضمان الخدمات الاساسية دون تفرقة او تفضيل لاتباع ديانة على أخرى، فإن الدولة تشجع المجتمع على التسامح تجاه التعددية الدينية.
وهذه الحيادية القانونية للدولة وتسامح المجتمع مع التعددية والاختلاف تمكن الأفراد المؤمنين من أن يكونوا أكثر أمانة في جهودهم للوصول بسلوكهم إلى التعايش مع اصحاب المعتقدات الدينية الأخرى. أما القمع والإجبار من جانب الدولة او المجتمع فيدفعان الى النفاق
– التفاوض: ماذا تعني بالتفاوض حول الشريعة ودورها وحول علاقة الدين بالدولة؟
أفرق بين الدولة والسياسة، فالقول بأن الدولة يجب الا تحاول فرض تطبيق الشريعة كشريعة، مع امكانية تأثير الاحكام الشرعية على سياسات الدولة من خلال السياسة.
هذا ما أعنيه بالتفاوض في تأثير الشريعة، حيث تتصارع عدة قوى سياسية مختلفة في تقديم وتعضيد سياساتها والدفاع عنها من خلال ما اسميه “بالمنطق المدني”.
وبهذه الطريقة، يكون على الناشطين السياسيين أن يسعوا لطرح ودعم اختياراتهم السياسية بحجج واسباب يمكن لجميع المواطنين مناقشتها بحرية، قبولا أو رفضا من دون إشارة للمعتقدات الدينية. فإذا أردت ان اقترح منع الفوائد على القروض (الربا) فعلي أن أقدم أسبابا اقتصادية واجتماعية تدعم اقتراحي في الحوار السياسي، بدلا من القول بأن الدولة يجب ان تمنع فوائد القروض لأنها حرام
في الوقت نفسه، على المسلمين أن يتجنبوا الربا في معاملاتهم الشخصية لأنه حرام. سواء منعته الدولة او سمحت به هذا هو السلوك الديني الذي يثاب عليه المؤمن أو يعاقب على مخالفته بحسب عمله ونيته. ما تفعله الدولة سواء كانت متأثرة بقواعد الشريعة أم لا، هو دائما من الامور السياسية، اما ما يفعله المؤمنون فمن الامور الدينية.
“الفصل والوصل”
– كيف يمكن الفصل بين الدين والدولة؟ هل ننكر الشريعة أم نحولها إلى قانون مدني؟
اولا: الواقع التاريخي دائما كان مع الفصل بين الإسلام والدولة، وليست هناك إشارة إلى دولة إسلامية في أي من لغات المجتمعات الإسلامية قبل القرن العشرين. والدعوات لما يسمى “الدولة الإسلامية” من قبل دعاة مثل سيد قطب والمودودي، قائمة على فكرة أوروبية عن الدولة الوطنية وقانونها العلماني، وليس على أساس نموذج تاريخي للدولة التي عاش في ظلها المسلمون حتى عهد الاستعمار الذي فرض عليهم النموذج الأوروبي للدولة.
ثانيا، ما يفترضه بعض المسلمين من وحدة بين الإسلام والدولة هو في الحقيقة وحدة بين الإسلام والسياسة. وبما إن الدولة كيان سياسي لا يمكن أن يكون له دين، فعندما نتحدث عن دولة إسلامية فإننا نعني بذلك دولة تفرض آراء الذين يسيطرون على الدولة، وليس الرؤية الموضوعية المحايدة للإسلام كدين.
ثالثا، كلما ادعت دولة أنها تفرض تطبيق الشريعة، فإن المبدأ الذي يتم فرضه يكون في الواقع هو الإرادة السياسية للدولة، وليس الشريعة كشريعة دينية. بمعنى آخر، إن فرض تطبيق الشريعة من قبل سلطة الدولة يغير من طبيعة القاعدة الشرعية إلى قانون علماني للدولة وليس تشريعا اسلاميا
من هنا، فكل قانون الدولة علماني، ويجب صياغته وتطبيقه من خلال عملية سياسية ديمقراطية يشارك فيها المواطنون المسلمون وغير المسلمين على قدم المساواة. اما الشريعة كقاعدة دينية فملزمة فقط للمسلمين
– كيف يمكن للمسلم أن يخدم سيدين في آن: الله والدولة؟
اولا: هناك سيد واحد هو الله سبحانه وتعالى. أما الدولة فخادمة لمواطنيها وليست سيدتهم.
ثانيا: أنا لا أدعو الى فصل الشريعة عن الدولة، فهما منفصلان بالفعل بحكم طبيعتها الجوهرية لأن الشريعة مجموعة من القواعد الدينية، أما الدولة فكيان سياسي.
يجب على المسلمين أن يعبدوا الله من باب التقوى المخلصة، وليس خوفا من سلطة الدولة. فلو أنني أطيع قاعدة الشريعة لأن الدولة أمرت بهذا، فأنا بذلك أعبد الدولة وليس الله. تطبيق الشريعة يجب أن يكون بنية صادقة للطاعة، وهو ما لا يتحقق عندما تقوم الدولة بفرضها.
– تقول إن علمانية الدولة تحمي الدين كيف؟
الدولة العلمانية تحمي الدين لأنها تخرجه من مجال المطامع السياسية للحكام والمسئولين. إن مملكة الدين هي قلب المؤمن وليس بيروقراطية موظفي الدولة. ويمكن أن ننظر إلى نقص الورع الديني الحقيقي في السعودية وإيران كنتيجة لأن الدولة تجبر الناس على المحافظة على مظاهر الممارسة الدينية، بغض النظر عن معتقداتهم الحقيقية ففي السعودية، يجبر الشيعة من المواطنين على الحياة وفق المبادئ الوهابية رغم أنهم لا يؤمنون بشرعيتها. وفي إيران يجبر المسلمون السنة على الحياة وفقا لاحكام المذهب الاثني عشري رغم أنهم لا يقبلون بهذا المذهب.
– وهل تحمي العلمانية الفرنسية الدين؟
أنا لم أستخدم نظام حكم موجودا في فرنسا أو غيرها كنموذج للعلمانية حسب تعريفي لعلمانية الدولة الذي يفترض الحياد الديني للدولة وبالنسبة لي فإن فرنسا ليست دولة علمانية حقيقية لأن الدولة تسيطر على الدين، وليست محايدة بشأن الدين.
والكمال غير ممكن لاي نظام بشري، لكن بعض النماذج للدولة تعتبر أفضل من غيرها نسبيا. في رأيي أن الهند وإندونيسيا وألمانيا والسنغال والولايات المتحدة الأمريكية هي نماذج أفضل لعلمانية الدولة التي أقصدها، لكن كلا من هذه الدول هي الأفضل بالنسبة لشعبها، وليس لغيرها لكي يقلدوها.
– البعض يعتبر ان الدين يحكم أمريكا رغم ان الدستور يبعد الدين عن الدولة؟
ما يحدث في الولايات المتحدة هو اتحاد الدين والسياسة، وليس الدين والدولة. فالفصل الدستوري بين الدين والدولة ليس شكليا بل هو حقيقي.
على أي حال فليس بذي بال بالنسبة لي إذا ما كانت أمريكا أو غيرها دولة صالحة ام طالحة. قضيتي هي دول المجتمعات الإسلامية. وإذا أردنا الصراحة والأمانة فإن دول الهند والولايات المتحدة والمانيا أفضل من دول المجتمعات الاسلامية جميعها. لكني لا اقول بان تكون أيا من هذه الدول لا تعد نموذجا علينا تقليده.
ولا يغير من الواقع بالنسبة لنا شيئا أن نقول إن هذه الدولة أو تلك ليست علمانية حقا. مثل هذه المقارنات تصرفنا عن قضيتنا الحقيقية: ألا وهي أن دولنا في العالم العربي والإسلامي ليست “إسلامية” ولا يمكن أن تكون إسلامية.
القضية هي ما إذا كانت دول العالم الاسلامي ديمقراطية وعلمانية أم لا. هل هي دول عادلة وفعالة وكفؤة تحت حكم القانون؟ وهل تفي باحتياجاتنا، وتحمي حقوقنا كبشر؟ تلك هي الأسئلة التي يجب أن تشغلنا.
– البعض يعيب على الباحثين الذين ينكرون الدولة الدينية الصمت عن طبيعة “اسرائيل” الدينية؟
“إسرائيل” هي نظام مختلط من العلمانية والدينية والعرقية لان اليهودية دين وجنس لكن هذه ليست مشكلتنا مع تلك الدولة. مشكلتنا مع “إسرائيل” هي انتهاكها للحقوق الأساسية للفلسطينيين في تقرير المصير، وليس أن نظامها العلماني ليس نقيا أو مكتملا. كما أننا لو نظرنا إلى “إسرائيل” مقارنة بالدول العربية في المنطقة، فسنجد أن إسرائيل أكثر ديمقراطية و فائدة لشعبها من أي من دولنا تجاه شعوبهم.
طبيعة الدين
– كيف نحل إشكالية المطلق والنسبي في الدين الإسلامي؟
في رأيي إن أسئلة كبرى كهذا هي إشكاليات جدلية أكثر منها أسئلة يمكن الإجابة عليها بصورة نهائية. إن معرفتنا وخبرتنا بالمطلق تجعله نسبيا لخبرتنا وتقيده بحدود فهمنا وتجربتنا البشرية وكلما علمنا جزءا من المطلق دخل في حيز النسبي وانفتح لنا مجال جديد للمطلق الذي يمكن أن نسعى إليه.
الفهم والتجربة الإنسانية لا تزيل القداسة عن الجزء الذي ندركه من المطلق، لكن ما هو نسبي هو معرفتنا وتجربتنا نحن البشر للمقدس.
بمعنى آخر، القرآن هو دائما مقدس ومطلق، لكن ما نفهمه نحن البشر منه نسبي ومحدود بقدراتنا البشرية الناقصة. وهذه الفكرة واضح في الآيات الاولى في سورة ” الزخرف” حم «1» وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ «2» إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «3» وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «4».
صحيح أن هناك ايات محكمات هن ام الكتاب ولكن من يملك السلطة الروحية ليقرر بصورة حاسمة وملزمة الآخرين ما هي الآيات المحكمات وماذا تعنى. لكل منا الحق فى قبول هذا الرأى أو ذاك فى هذه المسائل الخطيرة فى أمور الدين وعلى مسئولية الفردية لكن لا يحق لأى منا فرض رأيه على الاخرين من خلال سلطة الدولة
– كيف نحل الخلاف بين فردية الدين وجماعيته؟ وهل نزل الدين للفرد أم للجماعة؟
الفردية هي مدار التكليف الديني والاخلاقي لأن الفرد الذي يعتبر فاعلا أخلاقيا حرا هو غاية كل الوسائل، والمجتمع هو أكثر الوسائل فعالية لإنتاج هذا الفرد. الدين نزل دائما من أجل الفرد، ولا يمكن فهمه وممارسته إلا بواسطة الفرد. فالمجتمع ليس كيانا يمكنه التفكير أو الاعتقاد أو الفعل. المجتمع هو مفهوم مجازي. إنه مجتمع من المؤمنين، وليس مجتمعا مؤمنا.
– ولكن كثيرا من المفسرين يرون أن خطاب القرآن موجه الى المؤمنين كجماعة؟
التأكيد الذي نجده على توحد الجماعة، والعمل الجمعي ضرورة سياسية واجتماعية، لكن هذا لا يحيل المسئولية الدينية من الفرد الى الجماعة ككيان اخلاقي مستقل عن اعضائه من الافراد. التكليف الديني – اكرر – للفرد الواحد والمحاسبة ايضا للفرد الواحد فلا تكليف لكيان مجتمعي ولا محاسبة لكيان مجتمعي وانا اركز على الفردية لانها تمكن من التغيير المطلوب الذي يبدا دائما بالفرد وينتهي بالفرد وان كان الفرد يعتمد على الجماعة فى عيشه وأمنه.
– ولكن الإسلام صار عند البعض هوية و دينا؟
أعود إلى ما ذكرته من قبل من مقولة المفكر مالك بن نبي التي تؤكد ان الاستعمار هو نتيجة الضعف الداخلي وليس السبب وراء ذلك فإذا كان المجتمع ضعيفا فلا تجدي الهوية ولا يمكن لها ان تكون سفينة نوح التي تحمي المجتمع.
الإسلام دين في المقام الأول ثم بعد ذلك يمكن ان يؤثر على الهوية ولكن الخلط بينهما يضعف دور الدين كدين ويضعف أثره الايجابي على الهوية فلو قلنا ان الإسلام هوية ثم نرى الاختلاف بين الإسلام في غرب أفريقيا وفي الشرق الأوسط وفي جنوب شرق آسيا فهل يمثل هذا التعدد في الهويات تعددا في الإسلام.
نحن بحاجة لدعم الإسلام لهوية كل مجتمع ولكن هذا يقتضي الفهم الصحيح والممارسة الواعية للإسلام وليس بالتمني.
– فشلت تجربة الحكم الإسلامي في السودان بسبب فساد التفسير أم كان السبب فساد الفكرة ذاتها وهل يمكن تعميم الفشل من عدة تجارب؟
كما شرحت في الفصل السابع من النسخة العربية لكتابي “الإسلام وعلمانية الدولة”، فما فشل في السودان هو مفهوم وإمكانية ما يسمي بـ”دولة إسلامية”، وليس التجربة المحدودة بالسودان. المسألة هي أنه ليس هناك “دولة إسلامية” ولا يمكن أن تكون لأن المفهوم نفسه متناقض.
والتناقض الجوهري للدولة الدينية هو إنها تزعم بالحكم الألهي المقدس بواسطة البشر وهم مجبولون على الخطأ والهوى والاختلاف فيما بينهم مع إصرار كل منهم على إن الحق معه والباطل بالضرورة واقع على من يختلف معه والزعم بالدولة الدينية ادعاء بإحاطة البشر بعلم الله وحكمته وهو زعم باطل دينيا وعقلانيا فكل ما هو في تجربة الإنسان بشري وناقص وقد خرج من قدسية الدين.
الدولة مؤسسة سياسية لا يمكن أن يكون لها معتقد ديني. وليس هناك اتفاق على ما يفترض أن تعنيه الدولة الإسلامية ولا يوجد من يقدر علي الحكم المحايد المتجرد من الغرض السياسي على ما إذا كانت الدولة إسلامية أم لا، ويكفي هنا إن نقارن بين السعودية وإيران وكل منهما تزعم إنها دولة إسلامية.
– وكيف ترى نظام الدولة في السعودية وهل هو سياسي ام ديني؟
الملكية في السعودية نظام سياسي، وليس دولة دينية لا يمكن لأي دولة أن تكون “دينية”، رغم أن بعض الدول يمكن أن تكون أفضل، أكثر عدلا وديمقراطية من غيرها.
ودع كل منا يسأل نفسه هذا السؤال الصادق: هل أريد أن أعيش في السعودية أم في الهند أو إندونيسيا؟ دعنا ننظر أين يذهب من يسمون بالإسلاميين عندما يتعرضون للاضطهاد من قبل حكوماتهم؟ إلى أين لجأ الخوميني وراشد الغنوشي كمنفى؟ لقد ذهبوا إلى فرنسا وبريطانيا، وليس إلى أي دولة ذات أغلبية إسلامية.
– لماذا ترى أن الدولة الإسلامية فكرة “مستحيلة” مع إنها طبقت في أيام الأمويين والعباسيين؟
إن نموذج الدولة الإسلامية التي يطالب بها الإسلاميون هو نموذج الدولة القومية الأوروبية، لذلك أقول إن خطاب “الإسلامية” خطاب فترة ما بعد الاستعمار. نموذج الدولة هذا لا يمكن أن يكون إسلاميا لأنه ليس هناك صفة متفق عليها لما يعنيه ذلك؟ فمن يملك الحق والسلطة للحكم ما إذا كانت الدولة إسلامية أم لا؟ ومن يمكنه إصلاح مفارقات الممارسة والنظرية؟ هذه الصلاحية تمنح لمن يسمى بالمرشد الأعلى في إيران، لكنه بشر يصل إلى هذا المركز عن طريق السياسة وليس عن طريق أمر إلهي. فمن يصحح أخطاء المرشد الأعلى حين يخطئ؟
إن النبي محمد صلي الله عليه وسلم فقط هو المعصوم لأن القرآن كان يصححه إذا اخطأ وليس هناك وحي بعد النبي فكيف يمكن تصحيح أخطاء هؤلاء الذين يدعون أنهم يحكمون باسم الإسلام؟ وما إذا كان تقويمهم سيتم عن طريق السياسة، إذن فهي ليست مسألة دينية. الحقيقة الدينية لا يمكن أن تتأسس بالأغلبية، وبينما القرارات السياسية يجب أن تكون على أساس الأغلبية في النظم الديمقراطية أو على أساس تسلط الفرد أو الجماعة الحاكمة بالقوة القهرية لأن النظام غير الديمقراطي يعتمد بالضرورة على الإكراه فكيف يكون الإكراه أساسا للحق الديني.
إن فكرة الدولة الإسلامية مستحيلة لأنه ليست هناك وسيلة لتأكيد التزام الدولة بمواصفات كونها إسلامية. فلنفكر في حقيقة أن إيران والسعودية تدعيان أنهما إسلاميتان، بينما كل منهما بالنسبة للأخرى خارجة عن الملة.
ودولة المدينة بعد انتقال النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى كانت سياسية وكانت أفضل دولة ممكنة في التاريخ الإسلامي لأنها كانت تحكم بواسطة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، الذين كانوا أفضل مسلمين في تاريخنا. كان الخليفة يتخذ القرارات ويطيعه الآخرون لأنه كان الخليفة، وليس لأنه كان صحيحا دينيا حيث انه لا يوجد إنسان يعرف ما هو الصحيح دينيا. كل ما نعرفه هو ما نعتقد أنه صحيح، لكنا لا نستطيع أن نؤكد أنه الصواب حقا مع الله كما نعتقد مع أنفسنا.
وأصبحت الدولة ملكية بعد 30 عاما أي بعد دولة المدينة. فكل الدول في التاريخ الإسلامي كانت سياسية ولم يكن من الممكن لها أن تكون دينية فالخليفة يتم تعيينه لأن والده كان خليفة من قبله، وليس بناء على معرفته الدينية أو تقواه. وحيث أن رأس الدولة والحاكم المطلق يتم اختياره بهذه الطريقة، فكيف يمكن لبقية الدولة أن تكون إسلامية بأي معنى حقيقي.
المستقبل
– تقول إن الشريعة ستلعب دورا مهما في مستقبل الأمة كيف وأنت تدعو إلى إبعادها عن الدولة؟
الشريعة لها مستقبل مزدهر عندما تمارس بأمانة وصدق وحق في المجتمع، وليس عندما تقوم الدولة بتطبيقها قسرا. بمعنى أن إبقاء الشريعة خارج الدولة والدولة خارج الشريعة أفضل بالنسبة لكلتيهما. والخلط بينهما سىء بالنسبة لهما معا.
– ما معنى تطبيقها بصدق وبامانة؟ هل يمكن ابعاد الشريعة مثلا في مسألة ربا البنوك او مسألة المواريث؟
تطبيق المسلم للشريعة بصدق وامانة يعني انه اختار عدم التعامل بالربا رغم أن الدولة لا تحرم الربا في القانون المدني واذا حرمت الدولة الربا قانونا فيجب أن يكون ذلك على اسس اقتصادية واجتماعية عامة وليس لأن الربا حرام على المسلمين وبما أن تحريم الدولة اذا حدث انما يكون بالقانون المدني فيمكن الغاؤه في المستقبل بقانون مدني ايضا.
وفي مسالة المواريث يكون القانون المدني ساريا في محاكم الدولة واذا اختار المواطن ان يلتزم بالحكم الشرعي فعليه ان يفعل ذلك خارج اطار محاكم الدولة فقانون المواريث والاحوال الشخصية علماني مدني حتى لو ادعى تطبيق الاحكام الشرعية لان قرار التشريع قرار سياسي.
ولنفهم مسألة العلاقة بين الأحكام الشرعية والقانون المدني لننظر إلى الفرق بين الفعل وصفته الأخلاقية أو القانونية، فالسرقة جريمة تحت القانون المدني وهي أيضا ذنب من الناحية الدينية ولكنها ليست جريمة لأنها ذنب وليست ذنبا لأنها جريمة فالصفتان منفصلتان تماما رغم إنهما تنطبقان على الفعل نفسه.
فإذا تمت معاقبة فعل السرقة في القانون الجنائي المدني، فان هذا سيتم تطبيقه كقانون عام يسري على جميع المواطنين بالتساوي بغض النظر عن الدين، أي يمكن تطبيقه على غير المسلمين لأنه قانون تم تشريعه بطريقة ديمقراطية ويمكن إلغاؤه بطريقة ديمقراطية أيضا. أما إذا كان الزعم بان الحدود تعاقب الأخطاء لأنها حرام دينيا فهذا لا يجوز تطبيقه على غير المسلم لأنه لا يقبل الدين نفسه.
– تقول بعلمانية الدولة في الوقت الذي منح الربيع العربي فرصة هائلة للدولة الإسلامية لمن تنشد مزاميرك يا بروفيسور؟
إن إقبال عهد الحكومة الديمقراطية هو أفضل وقت لطرح أسئلة ومناقشات كتلك التي أسوقها الآن هناك فرصة للمناقشة والتجربة. دع الإسلاميين يصعدون للسلطة ديمقراطيا، وسيفشلون ويعدلون آراءهم. هكذا تبنى تقاليد السياسات الديمقراطية في كل مكان. الديمقراطيون المسيحيون في ألمانيا أدركوا أنهم يريدون قيمهم المسيحية في دولة علمانية، كالحزب الجمهوري في أمريكا. أنا لا أدعو إلى تقليد أي من هذه التجارب، ولكن أريد أن يكون لمصر تجربها الخاصة ونموذجها، وكذلك تونس.
– وماذا لو اختار الناس بطريقة ديمقراطية نموذج الدولة الدينية؟
اكرر إن الدولة الدينية وولاية الفقيه مفاهيم متناقضة ومستحيلة التطبيق فإذا كان هذا هو خيار شعب فسوف يتعلم من هذا الخطأ، ولا سبيل لتجنب الشعب تبعات اختياره الديمقراطي، ولكن خياره لن يصبح صحيحا لمجرد أنه ديمقراطي.
– الاستنتاج الذي توصلت إليه من قراءتي لكتابك أن علمانية الدولة تكاد تكون فريضة إسلامية؟
نعم، استنتاجك صحيح والقضية عندي ليس فقط في استحالة وهم الدولة الإسلامية بل في ضرورة علمانية الدولة المحايدة تجاه الدين هذا المنهج هو الضمان الوحيد لصحة وصدق ممارسة المسلمين للإسلام ولذلك فعلمانية الدولة فريضة إسلامية بالمعني الحضاري.
الاهرام
الإرادة
ريم عثمان : كتابات حرة الحياة رحلة طالت أو قصرت تحتاج أن نعيشها بسعادة وعطاء، أن نأخذ منها…