وجدت وطنا بلا حياة
خليل محمد سليمان :
غادرت البلاد لأكثر من عقدين من الزمان، و العنوان فقر، و مرض، و كآبة في كل شيئ، صودرت الحياة عنوة، و قُتلت الآمال، و صودرت الاحلام، ليصبح الوطن ارض بور جرداء يسكنها البوم.
عدت بالامس و قادني حظي العاثر لأجد مقعدي في الخطوط الاثيوبية التي بدأت معاناتي منذ ان وقفت امام موظفيها بمطار نيويورك، ولسان حالهم ” هذه هي إمكانياتنا لأننا العمالة الارخص”.
سأكتب عن هذا العملاق الاثيوبي في مساحة قادمة كتجربة رائدة تحتاج ان تُدرس للإقتداء، و اخذ العِبر برغم وضاعة الكادر البشري الذي لا تخطئه العين.
بعد قضاء ليلة هادئة في احد اجمل فنادق اديس ابابا يتبع للخطوط الاثيوبية، حضرت إلي المطار،
و اشواقي تسبقني وسط الامواج البشرية لأقف وسط حشد من السودانيين ينتظرون امام gate15 المخصص للرحلة التي تقلنا إلي مطار الخرطوم.
يتسابق الجميع بلا نظام في مشهد غير حضاري، و كأننا في احد مواقف السوق الشعبي حيث المقعد من نصيب الاقوى، و الاقدر علي تجاوز الاكتاف، و الرقاب.
وجدت طريقي في وسط هذا المشهد الفوضوي الي مقعدي، لنبدأ فصل جديد من المأساة حيث العدو الجديد للكل هن المضيفات.
لاول مرة في حياتي ارى فيها المضيفات يتعاملن مع زبائنهن بهذا الإسلوب القاسي، و الجاف بلا إبتسامة
،و يقدمن الخدمات وهن مكرهات.
المعروف عند بدء تقديم خدمات الضيافة داخل الطائرة يلتزم الجميع مكانه حتي إنتها هذه العملية التي لا تستغرق سوى دقائق معدودات.
لاحظت العشرات يجوبون الممرات الضيقة ذهاباً، و اياباً من و الي الحمامات، في ذات الوقت الذي تقف فيه صناديق المضيفات علي الممرات فحدثت جلبة، و فوضى، و “خناقات” و اصوات عالية في مشهد مُقرف يلخص الحال المتردئ الذي وصلنا إليه من إنعدام السلوك، و إحترام الذات.
نحن لسنا فقراء موارد، بل نفتقر إلي التربية، و السلوك الذي بالضرررة هو المنظم، و القائد لعملية النهضة، و توظيف الموارد التي تحت ارجلنا ذهباً، و ارضاً، و ماءً فرات، فكانت مأساتنا ان جئنا بالعواطلية، و المتسكعين ليقودوا ثورتنا العظيمة في مشهد عبثي.
حطت الطائرة لأجد نفسي في حقبة سحيقة من الزمان الغابر، فدخلنا إلي صالة المطار من “زقاق” عليه باب كسيح، و مناظر تشبه ايّ وكر إلا مطار الخرطوم العاصمة العريقة التي كانت جوهرة عواصم افريقيا، و العالم.
اجزم بان منظر مطار الخرطوم بهذا الشكل لا يمكن ان تراه في افقر، و احقر دول العالم علي الإطلاق، و الادهى و أمر السماسرة يختطفون زبائنهم من الصفوف امام بوابات الدخول ” عينك عينك” ليقودونهم الي مكتب زجاجي جانبي به اثنين من ضباط الشرطة لتسهيل إجراءات خروجهم بسرعة متخطين الصفوف، و الطوابير، بثياب رثة، و منظر مُقرف، و صادم، يعكس حقيقة الوضع الحزين المأساوي الذي تعيشه بلادنا.
يمكنك ان تجوب كل مطارات العالم، و لم ترى فرد امن او ضابط بزي رسمي إلا في مطارنا الحزين، حيث الجميع في كابينات الخدمات بزي الشرطة، و الجميع يفتقر للاناقة، و اللياقة في الخطابة، و معاملة الجمهور.
الكل يتسابق نحو عربات العفش علي قلتها، و رداءتها، تفتقر حتي الي طلاء محترم، امام سير العفش الذي لا يشبه المطار في شيئ سوى انه يذكرني بطاحونة ” ود سلمان ” في سبعينيات القرن المنصرم.
السؤال.. هل فعلاً في هذا البلد حكام، و مسؤولين بشر مثلنا بهم عيون ترى، و آذان تسمع؟
هل هناك مسؤول او حاكم يستخدم هذا المطار، و يرى ما رأيت؟
ايقنت ان في هذه البلاد تنعدم الاخلاق، و الضمير.
اعتقد هذا امر طبيعي لطالما للمسؤولين صالات فخمة خاصة بكبار الزوار أُعدت لترضي طموحهم المريض بالسلطة، و الجاه، و لا يمكن لأحدهم ان يرى ما رأيناه.
لطالما يتعالج المسؤولين و قادة المجتمع في الخارج سيظل الوطن، و الشعب رهينة في ايدي هؤلاء السماسرة عديمي الضمير، و الاخلاق بلا رحمة.
ما رأيته فقط جدير بأن يعلق كل اقطاب النظام البائد علي حبال المشانق، اما حكام ما بعد الثورة لو كان بهم ضمير، و تربوا علي القيّم لفروا من السلطة، و تولي المسؤولية كفرار الصيح من الاجرب.
خرجت من المطار لأذهب مباشرة الي ولاية سنار، كانت المفاجئة من العيار الثقيل ان ذات الطريق الهالك الذي تركته قبل عقدين من الزمات بحفره، و مطباته العشوائية، التي زادت بملايين المرات، مما جعلني اتوسل لمن معي بأن يسلكوا طريقاً ترابياً إن وجد، لنهرب من هذا الجحيم.
عبثاً تصطف العربات، امام بوابات التفتيش، لتحصيل رسوم العبور، بلا حياء لتأخذ الدولة ما لا تستحق لأن الاصل في الدفع هو تقديم الخدمات، وصيانة الطرق.
طريق الخرطوم الدمازين هو طريق قومي بالضرورة احد اذرع التنمية في هذه البلاد لربطه مناطق الإنتاج، مروراً بمعظم الولايات المهمة في عملية النهضة و الإستقرار في هذا البلد الجريح.
دخلت مدينتي الصغيرة التي تتوسد جانب النيل الازرق النابض غرباً، ابوحجار بالكأد اتعرف علي ملامحها، و ملامح اهلي و عشيرتي، و لسان حالهم ان الزمن توقف بهم في محطة الاقدار البائسة التي تقف عبثاً بين ماضي غابر، و مستقبل حائر تقوده جحافل العواطلية، و الإنتهازيين، و المتسلقين.
وصلت بعد الثانية عشر ليلاً، و الكل شد الرحال إلي طوابير الخبز التي تبدأ عند الحادية عشر للمبيت امام الافران مقابل اربعة عشر رغيفة للاسرة كبيرة كانت ام صغيرة، كيس يمكن لطفلين في السادسة من العمر ان يقضيا عليه مع ” كباية شاي، الصباح إن وجدت”.
و في الجانب الآخر من المدينة طوابير الوقود، وضع تعيشه و كأنك تتصفح كتاب لروائي في العصور الوسطى، كان حلم الناس خبز، دواء، او وقود، لتستقيم الحياة.
لو كنت اعلم حجم الدمار، و الخراب الذي اصاب هذه البلاد، و شعبها الطيب لما كتبت سطراً واحداً من قبل، لأن ما شاهدته، و رأيته بأم عيني يدعو للزهد، و الإحباط، و القرف في آن.
هذه البلاد فيها من الموارد ما ينهض بقارة افريقيا مجتمعة، و لكن ينقصنا الضمير، و التربية السليمة.
نتسابق بلا حياء لنحكم وطن عبارة عن “جيفة” بلا معالم.
هذه البلاد تحتاج الي ثورة حقيقية تقلب هذا الوضع العبثي لتضعنا في التراك الصحيح الذي يبدأ بالتربية، و الاخلاق، و السلوك، و الضمير.
اخيراً..ما صرح به وزير التعليم من تسول في السفارات لأجل طباعة الكتاب المدرسي فعلاً لا يشبه إلا البلاد التي رأيتها وقد هجرتها الغربان، و البوم.
*بلاد تتسول ثمن طباعة الكتاب المدرسي لتنهض، إذن ما هي المادة التي يحويها هذا الكتاب بين ضفتيه لتنهل منه الاجيال؟*
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …