العودة إلى سنار …
رشاد عثمان :
” عاش محمد عبد الحي ،كغيره من مثقفي (ذاك الزمان) .. عاش صراعات عنيفة في ذاته … الصراع بين الزنوجة والعروبة، والصراع بين الدين والعقلانية الأوروبية، والصراع بين التشريق والتغريب…. لم يقف الدكتور الشاعر في معالجته لهذا التمزق الداخلي عند حدود التصوير الفني المجرد كما فعل غيره بل استبصر دواخله العميقة، وتلبث عند النقائض التي تمور في أحشائه وعقله الباطن ثم عاد إلى المنابع في ديوانه الصغير (العودة إلى سنار)…. في ذلك الديوان صوفية تكاد تشبه تجليّات ابن عربي في (فتوحاته المكيّة) … كما فيه إعمالٌ مذهلٌ للديالكتيك…
شوف .. عاد الشاعر الذي عاش في داخل بلاده مغترباً… (غربة أمية بن الصلت) ..”وما غُربة الإنسانِ في غير دارِه .. ولكنها في قُربِ من لا يُشاكلُ” …
.. غربة التمزق بين الذات والموضوع، بين المظهر والمخبر، بين النخلة (رمز الصحراء) والأبنوس (رمز الغابة) .. عاد بغربة ثانية بعد تماسه مع أوروبا بحضارتها ونهوله من فيضها، تلك هي غربة التمزق بين التشريق والتغريب، بين قيس وعطيل …. ليقول:
(صاحبي قل ما ترى بين شعاب الأرخبيل
أرض ديك الجن أم قيس القتيل
أرض أوديب ولير أم متاهات عطيل
أرض سنغور عليها من نحاس البحر صهد لا يسيل …..
وبكيت ما بكيت.)…
وكان بكاؤه من الأعماق لا كذلك الذي نراه يُعتصر من العيون .. .
بحث الشاعر ونقَّب في التاريخ الذي أنجب كل هذه النقائض حتى استكشف (الثمر الناضج والجذر القديم) في سنار فعاد إليها :
سأعود اليوم يا سنار حيث الرمز خيط
من بريق أسود بين الصدى والصوت
بين الثمر الناضج والجذر القديم
لغتي أنت وينبوعي الذي يأوي نجومي
فافتحوا حراس سنار … افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
بدوي أنت؟
لا
من بلاد الزنج؟
لا
أنا منكم تائه عاد يغني بلسان ويصلي بلسان
هذا هو حال أهل السودان يغنون بلسان ويصّلون بلسان. ..
العودة إلى سنار ليست عودة إلى ماض زاهر وإنما هي بداية سوداننا الذي نعرف – وقد لا نعرف – .. السودان الذي انصهر فيه العرب والنوبة مع الزنج، وتلقح فيه الإسلام بالوثنية، وتداخلت فيه الشرائع السماوية بالأعراف التقليدية، واتخذ العربية لغة رسمية، وعاش أهله من بعد على مدى خمسة قرون بهذه المتناقضات المتآلفات: وجماع كل ذلك هو الهويّة السودانية التي شكل فيها الماضي الحاضر بعناصر تتداخل وتتفاعل لتستدعي أحلام المستقبل.. إذا – وفقط إذا – ماعرفنا .. مالذي تعنيه الجغرافيا .. إذا عجزنا عن معرفة ما يعنيه التأريخ”….
مجتزأ – بتصرف – من مقال قديم.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …