‫الرئيسية‬ رأي الراهن السوداني: أزمة التحليل أم تحليل الازمة
رأي - ديسمبر 7, 2020

الراهن السوداني: أزمة التحليل أم تحليل الازمة

بكري الجاك :

هنالك مبدأ شائع في الدراسات التطبيقية و الاجتماعية يعرف ب analysis paralysis وهو ما يمكن أن يترجم بشلل التحليل ويمكن تعريفه بأنه مغالطة الانساق التي تنعكس في الوضعية التي ينغمس فيها الباحث أو المحلل في شروط و مقومات الموضوع قيد التحليل الي الدرجة التي يفشل فيها الباحث من اتخاذ قرارات مصيرية مما يؤدي الي فشل في احداث اي تغيير او انجاز اي فعل ايجابي. و عادة ما يحدث شلل التحليل كنتيجة لحالة توهان الباحث أو المحلل في المعلومات والحقائق و الانساق الي درجة تجعله غير قادر علي الفعل.

هذه المقدمة في ظني المتواضع تعبر عن حالنا السابق و الراهن فما يكتب و يقال و يجترح في تشخيص المشكل السوداني منذ نشأة الدولة سواء باستخدام مدخل تاريخي اجتماعي لفهم الدولة الكولونيايلة الموروثة او في محاولة فهم دولة ما بعد الاستعمار و تطورها الرأسمالي من منظور نقدي ماركسي كانعكاس للصراع الطبقي الذي يعبر عن مصالح طبقية موروثة من دولة ما قبل الاستعمار، اضف الي ذلك تحليل نمط الانتاج الذي لازم طبيعة هذه الدولة بخصائصه الريعية أو بعلاقات انتاجه التقليدية في الارياف و ما قبل الرأسمالية في الحواضر، كل اشكال هذا التحليل بغض النظر عن مدي صحتها ففي الاساس لايوجد شيء صحيح علي الاطلاق و صحة اي نظرية او منهج تحليل تستند الي مدي قدرة النظرية أو المنهج في تفسير الواقع و مدي قدرة اي منهما علي البقاء. كل اشكال هذا التحليل تعبر عن شلل التحليل لأن جل ما يكتب في كثير من الاحيان يبدو وكأنه اعجاب بالمشكلة أو ما يعرف في مجال السياسة العامة ب Admiring the problem فعلم صناعة السياسة العامة كان منذ قيامه علي علاقة وطيدة بالبراكيسز praxis اي الفعل واتباع التجريب و التطبيق. وبمرور سريع علي صفحات الصحف المطبوعة و الالكترونية و الانشطة الاسفيرية و غيرها يستطيع الفرد ان يري مدي الجهد المسكوب في تعريف مشاكل البلاد من اقتصاد و سياسة و اجتماع و تشخيصها بغض النظر عن جودة واصالة هذه المجهودات الا ان جلها يقف ما بين شلل التحليل و الاعجاب بمعضلات هذه البلاد
.
لاادري اصول هذه الظاهرة و لا ادعي معرفتها لكن في ظني أن لها جذور في مناهج تعليمنا و ثقفاتنا، فالانتقال من التفكير النظري المترع بخيال الشاعر و الروائي الذي يحتفي بجزيل العبارة الي فضاء معرفي قابل للدراسة و الفحص بادوات معرفية و منهجية تطبيقية لهو أمر عسير علي الشاعر و الروائي الكائن داخل كل سوداني، السبب الآخر أظن أن له علاقة وطيدة بالثقافة و اللغة العربية التي بلاغتها قائمة علي السجع و الاطناب و الجناس و التكرار لا علي مدي صدقية الكلمات في التعبير عن الظاهرة قيد الدراسة من فحصها وتشريحها وقياسها من حيث المحتوي. في تقديري أن معضلة شلل التحليل تظل عائقا صعبا لانتقال صناع الرأي و المفكرين من خانة الوصف و الاعجاب بالمشاكل دون الاجتهاد و ربما حتي دون الوعي بضرورة تقديم حلول عملية قابلة للتطبيق و ليس محض أمنيات فالحلول تتخلق من فهم ومقاربة الواقع والامنيات من بنات الخيال الملازم لشلل التحليل.

و لنعطي مثالا واقعيا لحالة الاعجاب بالمشاكل و شلل التحليل دعونا ندلف الي الحديث عن ما آلت اليه ما يمكن تسميته مجازا بقوي الثورة، بشكل عام، في يونيو من العام الماضي كان هنالك مجموعة من الناس، بغض النظر عن مواقعهم السياسية، كانوا ضد اي تسوية سياسية مع اللجنة الأمنية موقنين بأن مواصلة الضغط عبر العصيان المدني و الاعتصام و الفعل الجماهيري سيؤدي بطريقة ما الي تراجع اللجنة الأمنية و هزيمتها و تسليمها جهاز الدولة مما يسمح بقيام دولة مدنية كاملة الدسم، و في الطرف لاآخر كانت هنالك مجموعة تري أنه عمليا لا خيار سوي الوصول الي تسوية سياسية مع اللجنة الأمنية التي أبدت رغبتها في التخلي عن نظام البشير و أعلنت عن استعدادها للدخول في شراكة تقود لفتح طريق للحريات و الانتقال الديمقراطي و جل هذه المجموعة من واقع متابعتي لم تفكر في التسوية لمحض سذاجتها السياسية وحدها بل لأنها كانت تري في التسوية فرصة لنقل الصراع الي مربع سياسي جديد يمكن أن يفتح آفاق جديدة من ضغوط دولية و تحالفات داخلية يمكن أن ترجح كفة التيار الديمقراطي بشقيه المدني و العسكري. النتيجة أنه بعد مدة قلية من الفرح و التسامح سرعان ما قام بعض من جماعة المطالبين بالمدنية الكاملة بوصف مجموعة التسوية بالهبوط الناعم وهو وصف اتخذ بعدا تخوينيا ووصفا سالبا ويوصم الموصوف به بالانتهازية و اللامبدئية و ان كان للمصحلح معني أعمق و أبعد بكثير في أدبيات فض النزاعات و ربما نعود اليه يوما ما. منذ يونيو في عام 2019 ظل الواقع السياسي يتأرجح في تفسيره و فعله ما بين مواقف و افعال المجموعتين فجزء من مجموعة التسوية تأرجحت ما بين الحردان سواء لتذرعها ببطء الاصلاحات في قيادة قوي الحرية و التغيير أو بضعف أداء الحكومة في ملفات الاصلاحات الاقتصادية و الاجهزة العدلية أو عدم التزام الحكومة برؤي التغيير، لاحقا انتقل بعض الحرادنين الي موقف لاهو معارض و لا هو داعم للحكومة بينما عاد بعض الحردانين للتعاون مع الحكومة بشكل انتقائي. انضم الي معسكر التسوية بعض من حملة السلاح عبر اتفاق سلام جوبا و تبقي أن ينضم للتسوية الحركة الشعبية بقيادة الحلو و حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد و مهما تكون طبيعة الاتفاق الذي سيتوصلا اليه بغض النظر عن حيثياته فسيكون امتداد و توسيع لمعسكر التسوية.

خيارات المعسكر الراغب في مدنية كاملة الدسم تبدأ باستخدام سلمية الثورة ووسائل العمل الجماهيري من اعتصام و عصيان مدني و تظاهر و ربما ابتداع عمل سياسي من نوع فريد لاسقاط حكومة التسوية أو اجبارها الي تغيير مسارها الي مسار غير معرف فهذه القوي ليس لها رؤي واضحة و موحدة، هذا التيار يقف عند معضلة شلل التحليل فلا ادري ما هي الآليات التي ستجعل الشق المسلح في هذه الحكومة يتخلي عن كل مكتسباته و هنا أعني الدول الموازية التي يسيطر عليها، ظللت منذ وقت طويل اقول انه لا توجد دولة عميقة في السودان و ربما ان وجدت كان يمكن أن تنجينا الكثير، هذه الدول الموازية هي التي بدأت في اسقاط البشير حتي قبل خروج الناس للشارع في سبتمبر 2013 و هذا ليس بأي حال تقليل من مدي فاعلية العمل الجماهيري الذي انتظم الشوارع في ديسمبر 2018 بل هو للتاكيد أن البشير كان قد فقد السيطرة علي هذه الشركات و المجموعات الاخطبوتية التي كانت تدير دول موازية داخل الدولة و تساهم في تسيير هيكل الدولة الرسمي الذي ورثته حكومة الثورة المدنية كانبوب فارغ. خلاصة الفعل الثوري باشكاله التقليدية سوف لن تؤثر علي الدول الموازية و شركاتها الامنية التي تسيطر علي 82% من موارد البلاد علي حسب قول رئيس الوزراء الدكتور حمدوك فهذه الدول (وأنت تقرأ في هذا المقال) تشحن المواشي من الخوي بعربات القوات المسلحة و تعبر بها الي اقصي الشمال لتذبح و تصدر لحومها عبر مصر و تودع عائداتها في حسابات ببنوك في دبي ويأتي منها ما يوفر مرتبات الشغيلة و حوافز القيادات الشحمانة لهذه الشركات، و في الضفة الاخري تقوم قوات الدعم السريع بدور دولة موازية أخري في سيطرتها علي الذهب و غيره. حيال هذه الوضعية آليات المقاومة السلمية مهما تصاعدت سوف لن تؤثر علي منظومة اقتصاد متكاملة تعمل خارج جهاز الدولة و تحمل السلاح و لا تتورع في استخدامه للحفاظ علي مصالحها. هذا لا يعني الوقوف مكتوفي الايدي حيال هذا الأمر بل للخروج من شلل التحليل و الاعجاب بالمشكلة من شاكلة الثورة سرقت وأن تحالف من الانتهازيين المحليين و الوكلاء الاقليميين يديرون البلاد و أهلها يكتون بنيران الغلاء و يموتون بالمرض و المسغبة، الخروج من حالة شلل التحليل يعني التفكير بشكل خلاق لتطوير أدوات لا تقف عند الهتاف فكل اشكال المقاومة السلمية ربما تؤذي الغالبية المطحونة بدلا من الضغط علي منظومة لا تعتمد علي جهاز الدولة في الحفاظ علي مصالحها، ربما التفكير الاوجب هو تحليل مصالح المجموعات المختلفة التي تشكل هذه الدول الموازية و فهم تركيبتها السيوسيولجية بدلا من التخوين و الهتاف و الزعيق.

اما قوي معسكر التسوية فلابد لها أن تواجه نفسها في مرآة المستقبل، فهذا التيار بكافة تشكيلاته من قوي الحرية التغيير بشكلها الجديد والجبهة الثورية و بقية اطراف سلام جوبا حتي التي لم تشارك في المساومة بعد لكنها تفاوض اظن أنها تؤمن بالديمقراطية كمدخل لمعالجة اختلالات الدولة السودانية الهيكلية من اشكال الهوية الوطنية وعدم توازن العلاقات الخارجية و التنمية غير المتوزانة و التهميش والعدالة الاجتماعية، علي قوي التسوية أن تطرح علي نفسها العديد من الاسئلة وأن تبدأ بمسائلة الفرضية التي قامت عليها هذه التسوية التي علي اختلالها كان يمكن أن تأتي بمساومة دستورية تشمل كل اطراف العملية السياسية في السودان بدلا من التسوية بالقطاعي، الفرضية تقول أن القبول بمشاركة اللجنة الأمنية أمر اقتضته الضرورة وحالة توازن الضعف التي شكلت الفترة من التاسع من ابريل الي 30 يونيو 2019 وأنه ليس هنالك اي سبب للايمان بأن من عمل مع البشير حتي آخر يوم في ايام حكمه يمكن أن يؤمن باصلاح الدولة السودانية و تقويتها لامتلاك زمام أمرها ووضعها في مسار الانتقال الديمقراطي و أن القبول بالتسوية مرده السعي الي خلق شروط موضوعية جديدة من تحالفات داخلية و اقليمية ودولية تعضد من موقف التيار الديمقراطي داخل معسكر التسوية. هل هنالك ما يجعل هذا التيار يري اي سبب للايمان بأن هذه الشراكة بشكلها الحالي يمكن أن تقود الي انتقال ديمقراطي حقيقي؟ اذا كانت الاجابة لا فلابد من التقدم خطوة من شلل التحليل و التفكير في خطوات عملية جادة مع الأخذ في الاعتبار أن ماحدث شبيه بالتغيير الكيمائي الذي لايمكن تغيير تفاعلاته بمجرد تغيير المواقف، هذا يتطلب الاجابة علي سؤال آخر ماهي فرص تعظيم الانتقال الديمقراطي و تعظيم شروط نجاحه في ظل وضعية هذه الشراكة المذرية التي لم تخرج من خانة الشكوك في النوايا و التمسك بمكتسبات ما قبل الدخول فيها علي الاقل من طرف اللجنة الأمنية؟ اللجنة الأمنية ايضا مطالبة بالاجابة علي سؤال ماذا يريد اعضائها و من تمثلهم من هذه الشراكة و ماذا يريدون لوضعية المؤسسات الأمنية في الدولة المنشودة؟ المؤكد أن اللجنة الأمنية لن تستطيع حكم هذه البلاد لا بقوة السلاح أو بغيره فهي لا تملك اي قدرة لخلق قاعدة اجتماعية بديلة لاعطائها شرعية اجتماعية فالقاعدة الاجتماعية التي شكلت مصدر عمق لكل الحكومات في السودان بكافة اشكالها قد استنفذت كل قدرتها و تيكتيكاتها،اما اذا كانت اللجنة الأمنية تحلم بتشكيل نظام حكم قائم علي الشراكة الحالية دون التفكير فيما هو أبعد من الآن فهذا خطأ استراتيجي من طرفها فمن الصعب التعويل علي أن تصبح قوي معسكر التسوية قاعدة اجتماعية أو مؤتمر وطني للجنة الأمنية لأن هذه القوي ستكون بلاقواعد في أقل من عام اذا ما سعت الي اقامة مشروع شمولي و اذا كان نظام البشير قد استطاع تمديد أمد بقائه بتوزيع الرشاوي الاجتماعية كبديل للتخطيط السياساتي السليم فحالة الانهيار الاقتصادي التي لا محالة ستتفاقم لا تضع هذه الشراكة في اي وضعية لتقديم رشاوي اجتماعية لشراء أي تاييد سياسي.

في تقديري أن القاسم المشترك الأعظم بين القوي المدنية التي وقفت ضد التسوية والتفاوض والتي انضمت اليها بعد أن دعمت التسوية مؤقتا و لفظتها لكافة الاسباب و التي تفاوض علي التسوية الآن و القوي المدنية في معسكر التسوية و بعض العسكريين هو أنهم جميعا دعامة التيار الديمقراطي الذي بامكانه أن يجعل من الحرية و العدالة و المساواة واقعا بدلا من شعار. لا اظن أن الهتاف و الزعيق و التخوين و تفتيش النوايا و التشكيك سيفيد لأن ذلك يعبر عن حالة من الكسل الذهني و فقر الخيال التي تعكس بالضبط ما وصفناه بشلل التحليل و الاعجاب بالمشكلات. بقراءة بسيطة لتاريخ الانتقال الديمقراطي في اي مكان في هذه البسيطة الحقيقة أن الانتقال الديمقراطي عملية معقدة و طويلة و شاقة و ما يحدث في الساحة السودانية ليس نشاز بل ان كان لنا أن نتعلم من عبر من سبقونا في هذا الطريق فلنعي أن الامور في مثل هذه المحطات لا يمكن اختزالها في ثنائيات أبيض و أسود وثوري و خائن ثم وطني و عميل فليس هنالك سبب يجعل ممن استشهد اي فضيلة علي من كان يقف بجواره فكل الشعب السوداني كان يمكن ان يكون شهداء، فلنكف من استخدام الشهداء كدرع اخلاقي للتعبير عن سموء المواقف و طهر السريرة و لنعمل علي اقامة ما ماتوا من أجله، وما لم نجتمع في التوافق علي مكتسبات الثورة من حرية تعبير و تنظيم و نوظفها للاصلاح فكل الشعب السوداني و انا و انت سنظل مشروع شهداء، أرجو أن نكون معاول للبناء.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …