إعادة تعريف الإنسان كحيوان شاعر
الحسن عبد العزيز :
مثل االشاعر كمثل بناء يفكك منزلا ليصنع من لبناته أشكالا لا تصلح إلا للتأمل المحض.إنه يعمل على تقويض المعنى مستخدما ذات الأدوات التي يتشكل منها المعنى؛ الكلمات. ولكي يخلِّص اللغة من غاياتها السردية عليه أن يتخلص هو من تلك الغايات أولا، ولن يتسنى له ذلك ما لم يفق من وعيه.الوعي ورطة الشاعر؛ سادن العادي والمبتذل.
يذهب الكاتب الألماني غوتهو ليد ليسينج إلى أن الأحداث التي يعتمد وقوعها على مرور الزمن تشكل مملكة الشعر مؤكدا النظرية الأصولية القائلة بأن الشعر والرسم مختلفان من حيث الجوهر، لكن الشاعر لا يكتب الشعر لمجرد أنه لا يستطيع الرسم أو لعدم توفر الألوان.
ينفتح من الشعر (نفاج) على الفلسفة، لكن مجرد شعرنة الخطاب الفلسفي لا تصنع شعرا، بل – بالكاد – تصطنع خطابا يشير إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر. يذكرني هذا بمقولة للفيلسوف الفرنسي فرانسيس بيكون: “شكرا لميكيافيللي لأنه حدثنا عن ما يفعله الناس وليس عن ما يجب أن يفعلوه”. يحدثنا الخطاب الشعري عن ما يجب أن يفعله الشعراء بينما يحدثنا الشعر عن ما يفعلونه حقا؛ وما يفعلونه – حقا – هو أنهم ينطلقون من نقطة في جسد اللغة ليعبروا من خلالها إلى سيميائية أبعد غورا في اكتناه الروح البشرية. وكما أن الروح تتخفى وراء الجسد فإن الشعر يتخفى وراء الكلمات بحيث لا يمكن رؤيته بعين البلاغة المجردة؛ إذ ليس من شأنه أن يبحث عن أوجه التشابه بين الأشياء، بل بما يحقق لكل منها كونه المتفرد عن ما سواه.
سلك الشعر في تطوره داخل مؤسسة الأدب مسارين مختلفين:
البحث عن شكل يميزه عبر الرصد والتقعيد للنماذج القياسية من أوزان وقواف وقاموس.
التخلص من الأعراض الجانبية لهذا الشكل؛ إثر اكتشاف إمكانية تحققها في أنظمة لغوية أخرى كمجرد نظم بارد.
هكذا مضى الشعر خلوصا إلى جوهرة المحض كفن للتعبير لا يبحث عن غاية بيانية.
حدث ذلك على مستوى الآداب القومية – كل في عزلته – قبل أن يلقي تطور الأدب المقارن بظلاله على نظرية الشعر ليمنحها بعدا كونيا. كان التناص بين هذه النظريات – القومية – أساس النظرية الكونية للشعر بحكم أن هذه القواسم هي البعد الإنساني للشعر والتي يمكن عبرها إعادة تعريف الإنسان – إنثربولوجيا – على أنه حيوان شاعر.
كان لظهور الصحافة الورقية تأثير جوهري في تطور الشعر إذ أزالت عن كاهله الكثير من الأعباء اليومية لتساهم في تخليصه من البعد الوظيفي؛ غير أنها أضفت عليه بعدا بصريا لم يكن بذات الكثافة عبر ما وفرت له من مساحات مختصة وغير مختصة. ابتعد الشعر عن الثقافة السمعية عندما سيطرت الصورة على نماذج تشكيل الوعي فاقترب من التشكيل لدرجة اكتسب فيها بياض الصفحات دلالة لا تقل أهمية عن سوادها.
ينتظم الشعراء – عادة – في جماعات توفر لهم منصات لتداول منتوجهم الشعري. هذه الجماعات – على ضرورتها – لا تلغي حقيقة أن الشاعر بطبيعته طائر يغرد خارج كل الأسراب. يدور حوار داخل هذه الجماعات وجدل بينها عن
طبيعة الشعر وهو في أغلبه يتراوح بين تصورات تتجاوز الواقع وأخرى تتجاوز التاريخ. فهل يمكن للجدل أن يتحول إلى حوار؟
قد تقرأ لكثير من الشعراء قليلا من الشعر، لكن الذهاب إلى الشراب يظل جميلا كنشوته.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …