‫الرئيسية‬ رأي سرد …إلى الوراء .. إلى الأمام
رأي - يناير 23, 2021

سرد …إلى الوراء .. إلى الأمام

مغيرة حسين :

لا تفعل ذلك يا “كُنَّة”، أرجوك، بحق الذي بيني وبينك من دم و لحم، عمتك “خميسة” أمي و”تيراب مشكور” خالي العزيز، أبوك، والبنات الأولاد والناس أجمعين. لا تفعل، فهذه الحياة طبقات بعضها فوق بعض، كلما كَبِرنا، من الترهات والهراء الذي، وأنت سيد العارفين، لا طائل من ورائه. تركنا كل شيءٍ وراءنا وجئنا إلى هذه البلاد. منذ أن وسوس لنا الخواجة “جيم لوك “وعشيقته الحسناء”إيكيه” الرسامين والمنسجمين كشخص واحد، اللذين كانا يدرسان الفلكلور النوبي. كنا، أنت وأنا، بنية الانضمام – باكرًا – إلى قوات المناضل “يوسف كوة “، هيأنا أنفسنا للانخراط في صفوف المقاتلين الشجعان؛ دبَّرنا ذلك دون علم أحد. جئتني يا (كُنَّة) في بيتنا في ” قعر الحجر” ذات صباح خريفي جميل. كان المطر يغسل الشوارع والبيوت ويغسل “الدلنج”؛ أرضَها الطيبة وسماءَها الخفيضة المعبأة، ويغسل جبالها المكتسية بالعشب والخضرة. تمرَّدنا أنت وأنا – في ذلك الصباح – على المدرسة. صنعنا خطتنا المحكمة والبريئة: نلتقي عصرًا في “جبل الكجور”، ونذهب شمالا إلى أن نبلغ “كبري السنجكاية”، ثم نلتف ناحية الغرب ونعرج لنلتقي بخور “أبو حبل” في أقصي نقطة عند شجرة تبلدي؛ حيث نجد كمندان “جمّاع ” الذي يأخذنا بدوره – حسب خطتنا المحكمة والبريئة – إلى حيث يكمُن المناضلون بين الغابات والجبال. عدت أنت من “أقوس” ممتطيًا دراجتك “الرالي” المزينة في ذوق و فن، ركبت معك و ذهبنا إلى النزل الذي كان يقيم فيه الخواجة وعشيقته. قال جيم: “سيبقى الزبد، أما ما ينفع الناس فيذهب جُفاءً”.
كانت “إيكيه” شبه عارية، تضع اللمسات النهائية للوحة مستوحاة من (سِبْرِ النِّتِل)، تجريد عن النوبة وهم يتصارعون، في الماضي البعيد، الكل ضد الكل. الأجساد المفتولة والقوية؛ وكأنها خرجت – للتوِّ – من مكمنها في الكهوف. قرون الثيران العالية، وحتى الغضب الذي يناطح الوجوه. الفتيات المزركشات بالريش والمحار وهن يضربن الأرض بأرجلهن كزلزال جامح. تأمَّلنا اللوحة، و تأملنا جسد “إيكيه” العاري. قالت:
سأعلمكم اللغة الهولندية…
قالت:
لا أحد يعرف ما الذي يحدث غدًا…
قالت:
الناس هنا بلا هدف.
كنا يا “كنة”، أنت وأنا، نحمل الكون فوق كتفنا ونشعر لو نحن انزوينا قليلا ستسقط الأرض بناسلها وشجرها وجبالها.. وتقوم القيامة‏، حلمنا كثيرا، أرهقنا وجداننا العذب في ذلك الوقت بلغط كثيف. كنا نشعر أننا وحدنا من يملك الحل لإشكالية الإنسان على الأرض. قالت “إيكيه: “ستدخلان الجامعة، هذا أفضل”.
كانت “الدلنج” – جميعها – تعلم أنَّ الحرب في هذه الليلة أشدُّ ضراوة بين المناضلين وجيش الحكومة. وفي المساء جاءت أخبار أنَّ رجالا كثيرين ماتوا. جاء رجال الأمن وأخذوا “جيم” و “إيكيه”، ولم نرهما مرة أخرى إلا هنا، وبعد زمن طويل في “أمستردام”.
أعرف يا “كُنَّة” ذلك، أعرف أنَّ حياتنا مركبة من قصص مزدحمة وفاشلة، قصص وحكايات توالت علينا دون أن ننتبه لشيءٍ. نحن فاشلون، لكن ليس بالقدر الذي يبرر أن تفعل ما تود أن تفعل!
أري أنَّ ذلك خيانة كبرى، وخيبة لا يقدم عليها نوبيٌّ أصيل مثلك. إنَّ فشلنا بمثابة قدر كبير لم نساهم في صناعته وحدنا. عديدٌ من الأشياء تداخلت، وعرجت بنا في طريق بعيد ومخيف. كنا في نهاية الأمر أي شيءٍ آخر سوي نحن. تحولنا – يا صاحبي – إلى غرباء حتى عنَّا. هذه البلاد، وبلادنا كذلك كانتا تتقاذفاننا مثل كراة جرباء. صحيح أنَّ نوايانا كانت طيبة تجاه كل شيءٍ، وأننا حاولنا أن نفعل الشيءَ الصحيح دائمًا، لكنا – والحق يقال – يا صاحبي كنا نفتقد لشيءٍ ما، لم ندرك تمامًا ما هو. ربما يكون الأمل، أو التأمل. ربما يكون التعويذة التي رفضنا في طفولتنا الباكرة أن نتقلَّدها. كان ذلك في “سلارا” الجميلة، كنا صغارا جدًّا. احتشدت حولنا (عواجيز) البلدة، أمي وأمك كانتا مثل نحلتين تحلقان فوق الجميع وتنشدان أناشيدَ غريبة وثرة. (عواجيز) البلدة غنين بأصوات واهنة، لكن بحميمية دافئة. وجاء الكجور يتوكأ على عصاه وعلى فتاتين تنثران المياه والابتسامات. جلس الرجل الكجور على حَجَرٍ وسط الجميع وأخذ يغمغم بكلمات غير مفهومة.. لا أكذبك يا “كُنَّة”، كنت خائفًا جدًّا، ارتعش جسدي واضطرب قلبي كثيرًا، وكدت أخذلك. استدعاك الكجور، وضع يده فوق رأسك ونادى السماء فهطل مطر غزير بلل كل شيءٍ، إلا أنت والكجور، وخرج من بين ثنايا الجبال ثور أخضر ذو عينين إنسانيتين. وقف شامخًا في المنتصف و بال؛ فأحجم المطر فجأة. في ذلك اليوم رفضنا أن نتقلَّد التعويذة، وصاح الرجل الكجور غاضبًا، أنتما ملعونان، وسخرت منا (عواجيز) البلدة. حاولت أمي وأمك معنا كثيرًا: بلين، بشدة، صرخن، غضبن، ضربننا، مزعن ثيابهن. كل ذلك كان بلا جدوى فالثور هرب و صعد الكجور إلى خلوته أعلى الجبل حيث لن يهبط إلا بعد شهر كامل.‏
تذكرنا هذه الحكاية دائمًا ورويناها كثيرًا ونحن نضحك. في ليالي “خور خور طقت” الحالمة، في “المربعات” مع شلة الأنس المفقود أو هكذا كنت تسميها، في قطار “القشاش “في اتجاهنا نحو “القاهرة”، ورويتها أنا بدوري لنجاة كوسا، الفتاة الأمازيغية التي تعرَّفنا عليها في حانة “إلى الوراء.. إلى الأمام”، المكتظة بأجناس الأرض جميعًا: هنود ولاتينيين، وأفارقة؛ مكتظة بالذين يعتقدون أنهم بداية الحياة وبذرة طحلبها الأولى، لذلك كنا نختلف إليها دائمًا.
كانت “نجاة” كما تعرف يا “كُنَّة” إحدى ضلالاتي الباذخة في الحياة. كانت كلبة ضالة كما تشتهي أن أناديها مداعبًا، صحفية وشاعرة، تقرأ الشعر في تلك الحانة بطريقتها البرية من وراء إيقاعات قديمة وآسرة. وكساحرة من القرون السحيقة، تعيد وفي لحظة خاطفة: المكان، الأشياء، والناس إلى ليونة البدء؛ حمأ ينبض، طحالب خضراء مترعة، طفيليات تشهق في الأسرار و الزمن الغرائبي النادر. كنت تحذّرني دائمًا، و هي اغتيلت في إحدى صباحات “أمستردام ” الحزينة. انفجرت سيارتها وتفحَّم جسدها الحميم، جسدها الطريُّ الموحي، جسدها الراقص، تفحم للأبد. قُيِّد البلاغ – طبعًا – ضد مجهول! آه يا “كُنَّة”، هي وأنت وأنا، كنا نعرف جيدًا من قتل “نجاة كوسا.”
من حقك يا “كُنَّة” أن تفعل ماتود أن تفعل، أتفهَّم جيدًا ذلك. المرارات، المرارات يا صاحبي، عبث الحياة وفوضاها التي لا تنتهي، المعارك والجحيم. من حقك، و من حقي أن أكتب إليك، كتبت كثيرًا من قبل في كل شيءٍ وعن كل شيءٍ. في ورق التبغ وعلى سيقان الشجر العتيق، في رمل خور “أبو حبل” الناعم والندي، في جدران حمامات خور طقت، وعلى أسطح القطارات المسافرة والأخرى المعطلة، في بيوت الأشباح المنتنة كما تعرف. وعلى شاشات اللابتوب، وفي الصحف والدوريات. وعلى صدر “نجاة كوسا” و نهديها يا “كُنَّة “. كتبت ولم تحدث كتاباتي أدنى أثر، ما حركت كتاباتي ساكنًا، ضاعت مثل أحلامنا وعشقنا والعالم. لكن لا تضِع أنت يا “كنة ” يا صاحبي. ثمة أشياء ستحدث هنا أو هناك، حكايات تأتي من قاع الكون، حمأ يكتظ بالبدء السرمدي، بالطحالب مترعة الخضرة، إيقاعات تشهق من عَمَه الليل بالسحر والغرائبية النادرة، “نجاة كوسا” والرجل الكجور، أمي وأمك تنشدان، المياه المنثورة من الرمل والفتيات، “إيكيه”، وهي ترسم وجهًا طفوليًّا ليوسف كوة، سلارا الجميلة، أقوس، كركراية، صيد الأرانب في الدغل الغافل والقديم، الثورِ الأخضرِ ذي العينين الإنسانيَّتين، لخوفي، لغنائنا بصوت عجوز واهن لكن بحميمية دافئة و نحن نلبس، آخر العمر، تعويذة الخلود.‏‎

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …