لأول مرة أشاهد عرضا مسرحيا يشارك فيه الالاف
محمود ميسرة السراج :
المسرح والثورة
لاحظت في مظاهرات السودان الاخيرة انها بدات تتجه ناحية العرض المسرحي.. عرض مسرحي بالمعنى الحرفي للعرض (من نص مسرحي وممثلين وازياء وخلافه)..هذا شئ مدهش للغاية.. لأول مرة اشاهد عرضا مسرحيا يشارك فيه الآلاف.. ليس فقط لأن سبايدرمان بزيه المميز وحركاته المرحة يشارك في هذا العرض..ولا لأن مشاهد الافتتاح تبدأ بخيول وفرسان وفارسات كما حدث في الديم.. ولا لأن مجموعة من الشباب تؤدي نصا شعريا يلعب كل واحد منهم فيه دوره كما يجب ويردد مقاطع من النص..وليس لأن تبادلا للادوار يحدث بين جردل مان وبمبان وومان واصحاب القبعات الصفراء وملوك الاشتباك وغاضبون بلا حدود.. ليس فقط لأن هذا العرض (المظاهرة) له بداية وكلايماكس ونهاية).. بل لكل تلك الاشياء مجتمعة.. اندهش.. متى اتفقت هذه الالوف المؤلفة على تفاصيل هذا النص..متى اقاموا تدريباتهم واي مكان بروفات يسع هذه المجاميع الهائلة..
مدة العرض ٥ ساعات.. خمس ساعات كاملة.. انه عرض خطر.. خطر جدا..عرض مسرحي تحت زخات الرصاص وقنابل الغاز والقنابل الصوتية ومجنزرات الشرطة التي تدهس الممثلين.. يا الهي..
نحن لم نتعود علي ذلك.. كم كنا بريئين.. كانت عروضنا تقام علي خشبات المسارح فقط..سأحكي عن واقعتين توضحان كيف كان اقصى ما فعله جيلنا من المسرحيين.. كيف كان المسرح الذي يطلق عليه النقاد اسم المسرح الثوري..
في أواخر سنوات حكم جعفر نميري.. سيرت رابطة طلاب كلية الطب في جامعة الخرطوم قافلتها الصحية كما جرت العادة كل سنة.. هذه المرة توجهت القافلة الي مدينة الابيض في غرب السودان.. ولان القافلة تتضمن انشطة ثقافية استعان بي الزملاء – وكنت طالبا في كلية الصيدلة – لعمل يوم مسرحي..
اشتغلنا علي مسرحية كتبها هشام عمر النور الطالب بكلية طب الاسنان وقتها..قدمنا المسرحية في مسرح عروس الرمال وشاركت انا ضمن الممثلين بالاضافة الي اخراج المسرحية.. كان يوما مشهودا.. في الكواليس ونحن نتجهز لتقديم الفصل الاخير من المسرحية نقل الينا الزملاء بان رجال الأمن في انتظارنا على بوابات المسرح.. كنا متوترين جدا ورغم ذلك قدمنا الفصل الاخير (الاكثر ثورية في المسرحية).. في تلك الليلة تآمر معنا مدير مسرح الابيض وقتها الاستاذ بدر الدين مصطفى وقام بتهريبنا من باب سري غير مستعمل يقع خلف خشبة المسرح مباشرة.. مكثنا في مدينة الابيض – نحن شلة الممثلين – في حالة خوف نتوقع في اي لحظة ان تتم مداهمتنا في مكان السكن ويتم القبض علينا، ولكن… حاكم الاقليم وقتها الفريق الفاتح بشارة – وكان رجلا حكيما – اصدر توجيهاته بان يعود (اولاد الخرطوم، هكذا وصفنا) الي مدينتهم سالمين وان لا يتعرض لهم أحد.. وهكذا.. عدنا للخرطوم بسلام..
بعدها بكم وتلاتين سنة وفي اواخر أيام حكم عمر البشير.. قدمنا في المسرح القومي ضمن ايام الخرطوم المسرحية (الفعالية التي ينظمها ويرعاها مركز عبد الكريم ميرغني) قدمنا مسرحية ” طرمبة حكومة” تأليف واخراج وليد الالفي..
كان مشهد الختام للمسرحية عبارة عن اغنية (اغنية جميلة جدا وقابلة للتأويل) كتبها وليد الالفي ولحنتها انا وسجلناها بصوت عامر الجوهري.. لاحظت ونحن علي خشبة المسرح نؤدي ادوارنا كممثلين ان الجمهور بدأ يردد معنا كلمات الاغنية.. وفجأة ارتفعت لافتات من وسط الصالة، لافتات كثيرة جدا من كل مكان في الصالة تدعو لاسقاط النظام.. وحدث هرج ومرج..في هذه المرة لم نكن خائفين ولا متوترين.. بل كنا سعداء..
في اليوم التالي اوقفت السلطات عروض المهرجان الي حين.. وحدث ما حدث..
والآن.. ما الذي يحدث في شوارع الخرطوم ومدني وبورتسودان.. انها العروض المسرحية الاكثر خطورة.. العروض المضمخة بالدم.. او هي الصلاة التي وضوؤها الدم كما قال سيدي الحلاج..
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …