‫الرئيسية‬ رأي رحيل رجل لم يكتم الشهادة: إبراهيم منعم منصور وداعاً
رأي - يوليو 21, 2020

رحيل رجل لم يكتم الشهادة: إبراهيم منعم منصور وداعاً

د. صديق أمبده

غيَّب الموت يوم الخميس، أول من أمس 16 يوليو2020، الاقتصادي ورجل الدولة والإداري الفذ الأستاذ (الناظر) إبراهيم منعم منصور. كثيرة هي الحكاوي التي يحكيها البعض عن الشعور بدنو الأجل، عن أقارب فارقوا هذه الفانية وهم يوصون ذويهم يوم الوفاة أو قبله بأيام قليلة. جزء منها لا يصدق. قال أحد أقاربي لأسرته، إنه سوف لن يكون معهم في الجمعة القادمة. وفي يوم الجمعة الموعود، قال لابنه الذي كان يهم بالخروج لغرض ما: “ما تتـأخر يمكن ما تحضرني”، وقد كان. قصص كثيرة وعجيبة في آن، إبراهيم منعم كان من بين هؤلاء.

في صباح نفس يوم الوفاة قال لابنيه: “أنا زول مودع ما عندي حاجة جديدة بقدر أقدمها (ليكم) تاني. خلوا بالكم من نفسكم ومن أهلكم ومن البلد، وأبقوا حُنان والبيت خلوه فاتح. أدفنوني وما تفرشوا علي”.

بعد حين وهو على فراشه يتحدث بصوت خفيض عن خلوا بالكم من نفسكم… الخ، ومحمد الابن على بُعد مترين منه بالقرب من باب الغرفة يتحدث مع الدكتور عن أن “عمي إبراهيم يتحدث عن الموت والأفضل حضورك”، حانت منه التفاتة فرآه قد توسد ذراعه وصمت. ذهب إليه وجس النبض.. في أكثر من منطقة، لم يعد هناك نبض ولم تعد هناك حياة. تأكد له أن أباه قد سلّم الروح إلى بارئها. هكذا رحل.. رحل وكأنه أحس بأنه قد قدم لوطنه كل ما استطاع. رحل لكن بعد أن فارق شفاهة غالبية المثقفين في هذا الوطن، وترك إرثاً خالداً مكتوباً، يقف شاهداً على فترة من التاريخ عاشها وكتب عنها، بود غالباً، ومرارة أحياناً معدداً فرصها الضائعة.

نشر قبل وفاته بنحو ثلاثة أعوام (2017) مذكراته في مجلد ضحم (أكثر من ألف صفحة)، حوت الكثير عن حياته الخاصة والعامة، وعن تاريخ السودان الحديث الذي كان مشاركاً فيه، أو مراقباً دقيق الملاحظة على حوادثه. وتم توثيق جزء كبير من تلك الذكريات تحت عنوان (السودان والفرص الضائعة)، بواسطة الأستاذ غسان علي عثمان في برنامجه المعروف “الوراق”، على قناة سودانية 24 الفضائية، في 17 حلقة لم يتم بثها كلها حتى الآن، ويا له من إنجاز جاء في وقته للأستاذ غسان.

لم يتوقف الراحل عن المساهمة برأيه بعد تركه العمل العام، حتى في سنوات الإنقاذ العجاف، كتب ونشر عدة رسائل مفتوحة إلى رأس النظام (البشير)، شديدة الانتقاد لأسلوب الحكم، ومحضه النصح في أن العدل أساس الحكم وسياجه، وحول مسؤوليته عن كل السودان والسودانيين. وحتى بعد الثورة لم يتوقف، فكتب مشيداً ببطولة واستبسال شبابها (كنداكات وشفاتة)، وكان من آخر تلك المساهمات رسالته المفتوحة المشهورة “لا تكتم الشهادة”، لرئيس مجلس السيادة ونائبه، حول أهمية ولاية وزارة المالية على المال العام، بما في ذلك شركات القوات النظامية.

هاتفني ابنه مهدي ظهر الخميس– بعد الوفاة بقليل- والتقطت من المحادثة كلمات “..إبراهيم والإذاعة”، فظننت أول الأمر أنه ينبهني إلى أن (الناظر) يتحدث للإذاعة. وعندما حاولت التأكد أكمل بصوت أوضح “عمي إبراهيم تُوفي، وقلت أكلمك قبل ما نرسل الخبر للإذاعة”، “لا حول ولا قوة إلا بالله…لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون”، من جانبي وانتهت المحادثة. كان خبراً صادماً لي؛ لأنه كان في أكمل صحة. رحل “بسَّام العشيِّات الوفي”– كما قال صلاح في “نحن والردى”- هكذا بين غمضة عين وانتباهتها.

لاحظت من مدة أن كلاً من ابنيه محمد ومهدي يناديانه ويتحدثان عنه بصفة “عمي إبراهيم”. مصدر الاسم كما علمت، أن أصدقاء محمد الكثر الذين يعمر بهم البيت، يكثرون بحكم عددهم وسؤالهم عنه من قول “عمي إبراهيم”، فصار اسم المخاطبة له منهم هو اسم المخاطبة السائد والأكثر حميمية داخل البيت كله. كانت روحه الشبابية آسرة، وعندما يأتي هؤلاء الشباب وهم من شتى المشارب والمهن يحتد نقاشهم، تعلو الأصوات وتنخفض، وتسمع “عمي إبراهيم”، استشهاداً واستنجاداً. كان هو- في أحايين كثيرة- يشارك في حراكهم النقاشي ويروض خيول خلافاتهم واختلافاتهم. أصبحوا يأنسون له ويستمتعون بحكاياه المتنوعة، التي لا تفوتهم بعض معانيها وعبرِها. ربما أدرك بعضهم أنهم محظوظون، إذ هم من قلة أُتيح لهم أن يستمعوا من فم تاريخ ماثل ما زال يمشي بينهم ويجلس معهم.

كما تمت الإشارة آنفاً، فقبل أسابيع قليلة فقط، كان الراحل قد كتب مقاله الأخير (لا تكتم الشهادة)، الذي يسرد فيه علاقة الجيش بوزارة المالية، وكيف أن المالية لم تقصِّر في أي سنة من السنوات عن الإيفاء بمتطلبات القوات المسلحة. ويشرح كيف أن توفير ميزانية القوات النظامية هو مسؤولية وزارة المالية في المقام الأول، كما هو الحال في كل البلدان التي يحترم جيشها شعبها، وأن التجارة والصناعة ليستا من عمل تلك القوات، وبالتالي وجوب تنازلهاعن الشركات التي تباشر كل الأنشطة التي ليست لها علاقة بعمل القوات النظامية وتسليمها لوزارة المالية؛ لأنها في الأصل مال عام تتولاه الجهة المفوضة بالتصرف فيه لكل السودان ولكل الجهات، حسب احتياجاتها.

شهادته الأخيرة المفتوحة إلى البرهان وحميدتي، كانت لها فيما يبدو أهمية خاصة، وكأنه قد شعر بعدها بأنه قال كل ما أراد أن يقول، وأفرغ كل ما لديه من قول وما في ذهنه من خير يمكن أن يقدمه للسودان، وأسدى النصح ما استطاع ولم يتبقَّ له شيء يقدمه، ففضَّل الرحيل. يقول مثل إفريقي “إذا تُوفي رجل إفريقي معمِّر احترقت مكتبة”. وفي هذا فإن إبراهيم منعم ولحسن حظ هذا الجيل والأجيال اللاحقة، قد بقي مكتبة لم تحترق.

كما يقول الأهل في دارفور عند العزاء “الموت سبيل الأولين والآخرين”، “سبقانا أيل بيومو”. والأستاذ الناظر “عمي إبراهيم” سبقنا إلى دار الخلود بحلول يومه الموعود. رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما قدم لوطنه من صالح الأعمال ونافعها، وبقدر ما ترك من إرث مكتوب ومشاهد تستهدي به الأجيال القادمة، وبقدر ما أسدى من نصح برّأ به ذمته من وِزر كتمان الشهادة، ولا شيء أرفع من ذلك في ميزان قول الحق. نسألك اللهم له الرحمة والمغفرة.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …