‫الرئيسية‬ رأي تحالف المقهورين
رأي - أغسطس 4, 2020

تحالف المقهورين

بكري الجاك

حول ضرورة قيام تحالف المقهورين لانهاء القهر و الاستبداد الاجتماعي
ودور ألمجتمع المدني في بناء التحالفات الاجتماعية لصناعة التغيير الاجتماعي

في صيف العام 2010 كنت علي و شك اكمال دراستي للحصول علي الدكتوراة وقد طلب مني تدريس كورس خاص عن ال Civic Engagement او ما يمكن ترجمته مجازا بالتواصل المدني ل 25 طالب من 20 دولة (من بينها لاوس وفيتنام و بوليفيا و موريتانيا و رواندا و انغولا و فنزويلا) قدموا الي امريكا من خلال أحد برامج التبادل الثقافي الذي تقدمه الخارجية الامريكية لطلاب جامعيين في آخر سنين دراستهم الجامعية و كتمهيد لربما عودتهم للدرسات العليا في امريكا في فترة لاحقة، وبعد ان غطيت الكثير من الاساسيات عن النظرية السياسية و النظرية الاقتصادية و الحوكمة و المجتمع المدني وصناعة السياسة العامة و التشبيك و القيادة و ادارة المصالح المتنافسة في ال Open Societyالمجتمع المفتوح، انتقلت للشق العملي حيث كنت اقودهم بشكل يومي للتعرف علي خمسة منظمات مجتمع مدني محلية تعمل في مجالات مختلفة ( تتراوح ما بين مراكز خدمة اجتماعية و هجرة و مساعدة الطلاب الفقراء)، و في احدي الايام بينما كنا في مركز اجتماعي في حي فقير معروف عنه العنف في مدينة Wilmington ويلمنغتون بولاية ديلاورDelaware فوجئنا ببدء اطلاق نار بين مجوعتين في منتصف الطريق و بحكم معرفتي بالمنطقة فقد قمت بتوجيه طلابي الخمسة الذين قد اختاروا اداء الجانب التطبيقي للكورس في ذلك المركز لمدة ثلاثة اسابيع و ظللنا داخل مبني المركز في حالة تأهب لقرابة الساعتين الي أن حضرت الشرطة و تم التأكد من سلامة الشوراع و في طريق عودتنا الي الجامعة سألني بعض الطلاب لماذا لا يحضر الجيش و يقوم بجمع السلاح و يقتل حملة السلاح علي الفور، و هنا كان لابد لي من الخوض في عملية شرح طويلة و معقدة عن مبدأ المواطنة و الحقوق الدستورية وعن تناقضات الانظمة الديمقراطية في ادارة مصالح متنافسة و متضاربة وقد استغرق أمر الشرح حوالي ثلاثة ساعات و لا أظن انه كان كافيا فبالنسبة لشخص نشأ في بيئة تتدخل فيها الجيوش في شتي مناحي الحياة و تقتل بلا هوادة سيصبح فهم امر الادارة المدنية للدولة و دور الشرطة فيها مسألة في غاية التعقيد و الصعوبة.

من أهم العوامل لتوطين و استدامة الديمقراطية في اي مجتمع هي تصدي حلف استراتيجي ( سياسي، اجتماعي، اقتصادي، بيروقراطي)، له مصالح مادية في وجود نظام ديمقراطي، و كنت في مقال سابق قد تناولت الشق السياسي لهذ الحلف حيث قلت أن القوي السياسية التي تسعي الي تغيير اجتماعي و ليس فقط مجرد الوصول للسلطة لتحكم هي القوي التي يجب أن تتصدي لقيادة عملية الانتقال الديمقراطي و حاججت أن هذا التحالف لا يمكن له أن يخرج من صلب اليمين والاسلام السياسي و لا اليسار بكافة اشكاله و أوضحت أن ( اليسار الجديد) اي الوسط و يسار الوسط و بعض القوي الحديثة هي المؤهلة اخلاقيا ومعرفيا لتشكيل هذا التيار و هذا لايعني بأي حال اقصاء لليمين و لا لليسار بل الطبيعي أن تتحول بعض القوي الرافضة للتغير او التي لها تصورات ايديولوجية (عقدية) عن ماهية التغيير الي قوي محافظة تعمل علي تعطيل سرعته ووقفه ان استطاعت وفق ادوات العمل السلمي و بالتالي يمكننا تطوير فضاء سياسي عريض فيه قوي تقدمية تسعي الي احداث تغييرات جوهرية في بنية المجتمع و اخري تسعي الي المحافظة علي البنيات التقليدية و ما بين هذين القطبين يتخلق المنطق الديمقراطي للتنافس الحر حين يتم التسليم الكامل من كل الاطراف أن الصيغة المثلي للمنافسة هي الافكار و البرامج في ظل مناخ ديمقراطي و ليس العنف والاستيلاء علي السلطة بالتآمر و الانقلابات سواء تحت مسمي الفضيلة السماوية أو العدالة الارضية. هنا ساتناول القوي الاجتماعية التي لها مصالح مادية في وجود نظام ديمقراطي و كيف يلعب المجتمع المدني دور الوعاء الذي يعبر عن هذه المصالح التي تتصارع و تتناقض في كثير من الاحيان في مجتمع تعددي او Plural Society

اي مجتمع حر و مفتوح لابد له ان يعبر عن مصالح متضاربة و متناقضة و متنافسة و السياسة بمعناها الواسع هي عملية تعريف و اعادة تعريف لهذه المصالح و الدور الاساسي للمجتمع المدني ( الذي يمكن تعريفه بأنه اي شيء غير حكومي و لم ينشأ بمبادرة من الحكومة) هو ادارة هذه المصالح، فالنقابات و اتحادات العمال و غرف اصحاب العمل و المنظمات الطوعية و أندية الكرة و المنظمات الغير حكومية و غيرها تعمل علي بلورة ومن ثم التعبير عن مصالح مجموعات متعددة و مصالح هذه المجموعات لا تتنافس فحسب بل تتناقض في اغلب الاحيان. الوضع الطبيعي في ظل اي نظام ديمقراطي ان تلعب منظمات المجتمع المدني دور أصيل في تشكيل الاصطفافات الاجتماعيىة وفقا للمصالح التي تعبر عنها هذه الكيانات. في واقع السودان اليوم هنالك اشكال متعددة من القهر و الاستبداد الاجتماعي الذي لا يتماشي مع فكرة المجتمع الحر الديمقراطي ومن الطبيعي ان تنبريء قوي في المجتمع المدني لاحداث التغيير بانهاء الاستبداد، النساء يقفن في اعلي هرم المقهورين اجتماعيا نتيجة لسيطرة بنية اجتماعية بطرياركية علي الحياة و المجتمع، هنالك المهمشون اثنيا وثقافيا و هم في كثير من الاحيان ضحايا العنصرية المؤسسية institutional Racism التي ظلت سمة من سمات الدولة السودانية في طرق عملها اليومية، هنالك الناس المنحدرين من أصول افريقية ( و كأنما ليس كل السودانيين منحدرين من اصول أفريقية مقابل البعض الذين يعتقدون ان اصولهم تعود للجزيرة العربية لذا هنا انا استخدم هذا المصطلح مجازا للتوضيح) في كثير من قري و مدن و حواضر السودان خصوصا شمال ووسط السودان يتم التعامل معهم اجتماعيا وكأنهم ليسوا ببشر يتمتعون بكامل الانسانية بحكم أن بعضهم أبناء و بنات العبيد المحررين في أوئل القرن العشرين بعد انهاء العبودية، كل هذه المجموعات لها مصلحة مادية في وجود نظام يقدس المواطنة المتساوية ويضمن الحريات الاساسية، ففي ظل وجود الحق في التعبير و التنظيم و الاحتجاج سيكون باستطاعة هذه المجموعات تنظيم نفسها في أجسام مدنية و مطلبية و بامكانها ان تتحالف مع قوي اخري و تيارات سياسية للتاثير علي الدولة و في تغيير القوانين والسياسات من اجل فتح افق للعدالة الانسانية و العدالة الاجتماعية. نظريا هذه هي طريقة عمل التحالفات الاجتماعية التي تتشكل حول مصالح مادية و تهدف الي احدات تغييرات عميقة في المجتمع بهدم بنيات القهر والاستبداد الاجتماعي كمدخل لتحقيق العدالة والحرية الاجتماعية حتي يتكمن الافراد من عيش حياتهم وفق تصوراتهم واختياراتهم و ليس كاستجابة لواقع اجتماعي استبدادي، علي سبيل المثال فكرة ربط قيمة الانسان ( و بالذات النساء) بالزواج و الانجاب هو شكل من اشكال التسلط الاجتماعي، فالمجتمع البطرياركي لا يري في انجازات النساء الاكاديمية و المهنية أي قيمة ومهما كانت نجاحات النساء اذا لم تتمكن المرأة من الزواج و الانجاب فهي منقوصة القيمة، و ايضا فكرة ربط الرجولة بتصورات عن الفحولة و الذكورية هو شكل من اشكال التسلط الاجتماعي و مصادرة لحقوق مجموعات كبيرة من المثليين تجد نفسها مضطرة للحياة في الخفاء و علي هامش المجتمع.

التغيير الاجتماعي عملية معقدة و ربما تتطلب اجيال لتكتمل بعض حلقاتها و في اي لحظة زمنية اي مجتمع يمر بحالة تغيير اجتماعي فهي عملية مستمرة و ليست حدث Process not an event، و يمكن تعريف التغيير الاجتماعي من مظور سيسيوولوجي (علم الاجتماع) بانه ” the alteration of mechanisms within the social structure, characterized by changes in cultural symbols, rules of behavior, social organizations, or value systems” اي التغيير في الآليات داخل البنية الاجتماعية و يتجلي في تغيير الرموز الثقافية والقواعد السلوكية وطرق التنظيم الاجتماعي وأصول و مصادر القيمة. من ناحية اخري هنالك مداخل متعددة للتغيير الاجتماعي، واذا ما استثنينا التغيير الذي يفرض بالعنف بواسطة رقابة ووصاية الدولة علي سلوك الافراد، وهو في كل حال شكل من اشكال قهر الدولة، وهذا النمط من التغيير يقوم كتجربة فرض هوية اجتماعية للدولة كما حدث في تركيا في أوائل القرن العشرين و في تونس في عهد بن علي، ومثل هذا النمط من اشكال التغيير الاجتماعي ما لم يتواصل الي عدة اجيال من الصعب التعويل عليه في تغيير بنية المجتمعات المحافظة وما حدث في تركيا في عهد ادروغان و في تونس بعد نهاية حكم بن علي يمكننا من فهم أن مثل هذه المشاريع تظل فوقية في تاثيرها اضافة الي انها غير ديمقراطية. اما التغيير الاجتماعي الذي ياتي عبر القوانين في ظل حراك سلمي فهو و ان كان مهم الا انه لا يمكن التعويل عليه وحده لانهاء القهر و الاستبداد الاجتماعي، فاذا اخذنا آخر تغيير للقوانين مثل اعطاء النساء المنفصلات عن ازواجهن الحق في السفر مع ابنائهن هو تغيير مهم و مفيد للغاية لطبقة معينة من النساء المدينيات المتعلمات من الطبقة الوسطي و لكنه ربما سوف لن يخدم العديد من النساء في اغلب الارياف و الوديان وحتي في اطراف المدن، فأخذ الحقوق بالقانون في حد ذاته يتطلب معرفة و دراية و قدرة علي التعامل مع جهاز الدولة اي Navigation skills فحتي هنا في امريكا الفقراء لا يستطيعون التعامل مع النظام العدلي وعادة ما يدفعون الثمن في القبول بمساومات قضائية من غير حتي الوصول الي محاكمة و حيثيات حكم صادرة من المحلفين كما في نظام ومبدأ التقاضي ( 95 % من القضايا في امريكا تحسم في ما يسمي ال deal الاتفاق بين الادعاء و الدفاع دون الذهاب الي محاكمة). مثال آخر هو الدساتير، فمعظم دول العالم النامية لها دساتير و قوانين قد تكون في غاية التناسق لكنها تظل حبيسة رفوف الاجهزة العدلية و تعاني من عدم قدرة الدولة في تنفيذ هذه القوانين، فالقانون الذي لا يجد جهاز لانفاذه كما القانون الذي لم يكن.
عليه، علي رأس القضايا التي تتطلب تغيير اجتماعي في السلوك و التنظيم ومفهوم القيمة الاجتماعية قضايا العدالة النوعية و التي يجب أن تتضمن انهاء كافة اشكال التمييز ضد النساء سوءا في البيوت أو في الفضاء العام، و هنالك ايضا قضايا التمييز العنصري سوءا كانت العنصرية المؤسسية التي تمارس بواسطة أجهزة الدولة و تتجلي في القتل العبثي الذي يحدث حتي في ايام العيد و في الاهمال المنظم و المتعمد للخدمات من تعليم و صحة و هنا لابد من تشريع سيساسات لتحقيق العدالة الانسانية و العدالة الاجتماعية بما في ذلك التمييز الايجابي لمعالجة المظالم التاريخية التي لحقت بمجموعات كبيرة اما لاسباب اثنية او عرقية او ثقافية. هذه الاشكال من القهر تجعل من الضروري احداث تغييرات عميقة في قواعد السلوك الاجتماعي التي تضع شبكة من المظالم حول رقاب الافراد نساءا و رجالا سوي في ما يختارون من ازياء أو لون شعر أو نمط حياة بعينه، فكرة الحرية في المجتمع الحر يجب أن تضمن للافراد اختيار أنماط حياتهم طالما خياراتهم لا تصادر حقوق الاخرين في عيش أنماط حياتهم. وبما أن مصادر القهر الاجتماعي قد تتعدد الا انها تتقاطع في كيفية اشتغالها فأن جموع المقهورين و ضحايا الاستبداد الاجتماعي سيجدون فرص في توحيد جبهات نضالاتهم في تحالفات اجتماعية و كما قيل قديما No one is free until everybody is free اي لا حرية لاي فرد الا في حرية الجميع. فبالاضافة الي تغيير القوانين يجب ان نعمل لتغيير اجتماعي يبدأ باعادة تعريف المصلحة العامة وبتعريف أصحاب المصالح بحقوقهم و مساعدتهم علي الاصطفاف الاجتماعي مع القوي التي يمكن ان تكون حليف في التأثير الاجتماعي لتغيير البنيات الاجتماعية و التنظيم الاجتماعي وقواعد السلوك و التوقعات وفي الضغط علي جهاز الدولة و هذا هو دور المجتمع المدني الناضج بامتياز و في ظني مجتمعنا المدني الحالي بعيد عن وصفه بالناضج، و سرعان ما تمكنا من خلق هذه التحالفات الاجتماعية وفقا للمصالح المادية لاحداث التغيير الاجتماعي المنشود لكل المقهورين اجتماعيا فسرعان ما سننهي كافة اشكال القهر و الاستبداد الاجتماعي و هذا هو الركن الثاني في الحلف الاسترتيجي لتوطين و استدامة الديمقراطية و هذا هو واجب القوي التي تسعي الي خلق مجتمع حر و متسامح و مفتوح في دولة تضمن المواطنة المتساوية و تحمي حقوق الافراد في السعي الي عيش حياتهم بالشكل الذي يرون.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …