‫الرئيسية‬ رأي عن “الشيوعوفوبيا” ومتلازمة “سنوبول”
رأي - أغسطس 19, 2020

عن “الشيوعوفوبيا” ومتلازمة “سنوبول”

محفوظ بشرى

* شيوعوفوبيا
هناك ما يمكن قراءته من موجات الهجوم على الحزب الشيوعي السوداني، التي ترتفع باطراد من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لاسيما “فيسبوك”، من ناشطين ينتمي كثيرون منهم إلى قوى سياسية هي جزء – مثلها مثل “الشيوعي” – من تحالف قوى الحرية والتغيير، المفترض أنه “حاضنة” الحكومة الانتقالية الحالية.
هذا الهجوم الذي يزداد ضراوة كلما زادت الأصوات الناقمة على أداء “حكومة الثورة!”، يمثل في نظري “شيوعوفوبيا” لها جذور في الأداء السياسي للحزب الشيوعي ومهاجميه أثناء العمل في التنظيمات الطلابية بالجامعات السودانية، كما أن لهذه الفوبيا محركات حالية على علاقة بموضع المهاجمين في هيكل الحكومة والتحالفات الجانبية داخل التحالف “الحاكم!”.
تتغذى “الشيوعوفوبيا” الحالية، من الإرث الثقيل للحزب الشيوعي السوداني في “تغويص”* الأحزاب والتنظيمات الأخرى حتى تلك التي تجمعه بها تحالفات طويلة الأمد، بجانب إرث “الشيوعي” أيضاً في التخفي وراء واجهات عدة، سياسية وثقافية واجتماعية لخلق تيار رئيسي تجاه القضايا التي يتبناها، وهو ما مثل كابوساً لعدد من التنظيمات التي كانت عاجزة عن مجاراته في هذا الجانب لأسباب عدة، وزرع فيها حالة من الشك المستديم وعدم الثقة في المشهد السياسي الطلابي.
إذا أخذنا الفترة من بداية التسعينيات وحتى العام 2005، حين كان العمل السياسي الطلابي المعارض لنظام البشير في أوج ضراوته، فإن طلاب ذلك الوقت، هم اليوم ناشطون سياسيون في أحزاب “ق.ح.ت”، ومنصات التواصل الاجتماعي، وقد جربوا العيش في بيئة يسممها الشك في شريك رئيسي للنضال ضد النظام الديكتاتوري السابق، وهم اليوم يوظفون تلك الحزازات القديمة في تمظهر آخر، أسميه “متلازمة سنوبول”.

* متلازمة سنوبول
في رواية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، يتم استخدام الخنزير الآبق “سنوبول” لصنع عدو لـ “الثورة” تعلق عليه كل المشاكل، ويوظفه الديكتاتوريون الجدد في إبقاء قبضتهم على السلطة بقمع كل صاحب رأي مخالف، فهو بالتأكيد تابع خفي لسنوبول. في سبيل ذلك صنع الخنزير القائد “نابليون” من “سنوبول” عدواً خارقاً بقدرات فذة وقدرة كبيرة على التأثير في المزرعة، أو ما يسميه “التخريب”، وجند آلته الدعائية لصنع هذه الحقيقة وترسيخها.
الناشطون المنتمون اليوم إلى كيانات حصلت على قبس من السلطة تظن أنه سينفعها في تمهيد الأرض لنفسها إن قيض لنا الوصول إلى الانتخابات، هؤلاء الناشطون، مثلهم مثل الخنزير “نابليون”؛ يذودون بكل ما طالته الذاكرة، عن سلطة كياناتهم هذه، فإن جرؤ “تجمع المهنيين” أو “لجان المقاومة” أو أي كيان في أي وقت، على انتقاد الحكومة خارج حدود القسوة التي لا تشكل خطراً عليها، أو دعوا لإسقاطها أو تعديلها وتصحيحها، أو أي تغيير في بنيتها الحالية؛ هنا يسترجع هؤلاء الناشطون العدو الخارق “سنوبول” القادر على تنظيم احتجاجات بالآلاف، وغش آلاف من الشباب وتضليلهم ليدعموا دون وعي رؤيته.. “سنوبول” الذي نجح في خداعهم بذكائه الخارق ليستولى منهم على منصة “التجمع” و(اختطفها)!
تحويل الانتماء “السري” للحزب الشيوعي إلى فزاعة وتهمة جاهزة ومجانية لوأد أي حراك مناوئ لتركيبة الحكم الحالية، وتقييد أي قوة حديثة تصعد أو تظهر في المجال العام، لا يخرج في نظري عن كونه ممارسة سياسية طفولية، ووعي “غوغائي” يصطف خلفه عشرات “الركانة”** بأصوات جهورة وقدرة على اللجاج العبيط وثقل الدم السياسي، كل هذا من أجل الهروب من أسئلة الفاعلية والقدرة السياسية، وتغطية على فشل الرؤى، ومراوغة عن الهدف الحقيقي لدفاعهم عن أداء حكومة لا يكاد يرقى لوصف “فوضى”.
يتم بهذه الاتهامات إظهار الحزب الشيوعي السوداني كعملاق ذي قدرات تنظيمية فذة، ومكر وذكاء يؤهله أن “يلخبط” ويخلط أوراق الفترة الانتقالية ويفسدها. فهو في كل مكان، وخلف كل حجر. وربما يرضخ الحزب العجوز لهذه الدعاية، فهي تجعل له “قيمة” أكبر من حقيقته، وكأنه ليس حزباً ميتاً ومتحجراً يعيش في خدر الستينيات ولا يحيا إلا في مخاوف “حلفائه!”.
هذه الحجة القائمة على “متلازمة سنوبول”، ظلت إرثاً سياسياً مستمراً بأشكال مختلفة، واستخدمت لتحييد الحزب الشيوعي حيناً، وتحميله وزر إخفاقات القوى السياسية التقليدية حينا آخر، ومرات للتعمية والتضليل عن المشاكل الحقيقية والأسئلة الملحة التي تواجه الممارسة السياسية المختلة.
استخدم البشير وحاضتنه الإسلامية الهجوم على الحزب الشيوعي، وهو أمر مفهوم للعداء التاريخي الصريح بينهما. لكن بالنسبة إلى قوى أخرى ظلت في تحالف مختلفة أنواعه مع “الشيوعي”؛ فإن استخدامها لهذه الحجة يندرج بوضوح في خانة الفجور السياسي.
حتى الآن لم يصادفني نقاش متزن ومنطقي ومنهجي حول “مشكلة الواجهات” وأثرها “الشرير” على المشهد السياسي مثلاً، أو تحليل يهتدي بالدليل لتبيان كيف صنع حزب مهلهل ومتصلب المفاصل مثل الشيوعي السوداني واجهات لعمله، وغرضه منها، واتساق هذا الغرض مع المرحلة أو ضرره عليها، بل كل ما وجدته هو ديماغوجية صريحة وفجة.
إن هذا “الذهان السياسي” الذي يلغ فيه مهاجمو الحزب الشيوعي جامعين من حولهم أنصار “داري على شمعتك تقيد” منعدمي الطموح، والممنين أنفسهم بقضمات من السلطة قد تجلب إليهم الشجرة كلها؛ هذا الذهان هو أشد فتكاً بالحياة السياسية من الخبث السياسي والتعالي الفكري الذي مارسه الشيوعيون في الجامعات قديماً.. أنتم تؤسسون لمنصة عقلانيتها مفقودة، وأدبها أدب الجعجعة وترك الطحين ليرتع فيه أصحاب الواجهات الحقيقية، من يعملون صامتين لتقويض كل شيء وحيازة كل شيء، تاركين مسرح العبث للاعبي السيرك السياسي المتناحرين وفاقدي الكفاءة والرؤية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* التغويص: هو زرع كوادر من حزب، ضمن عضوية حزب آخر، بغرض الاطلاع على أسراره وتوجيه سياساته بما يخدم الحزب المغوِّص.
** الركانة: الكوادر الخطابية للتنظيمات في الجامعات كانت في الأغلب تعتمد آليات ديماغوجية وحيل كلامية لإنتاج حقائق بديلة لكسب تعاطف الطلاب.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …