الشاعر الحسن عبد العزيز للشاهد : كتبت من أجل الكتابة.. لا لشيء .. فوجدت فيها كل شيء!!
منوعات – الشاهد :
1
الأستاذ (الدكتور؛ ولهذا اللقب حكاية مؤلمة سنأتي لها) الشاعر الحسن عبد العزيز الذي لمع اسمه في صوالين الشعر العاصمي ومنتدياته في الألفينيات و(طاشراتها) في حد ذاته يصعب أن يطرأ على بال أحد كهدف لحوار صحفي أو محاولة توثيق لسبب بسيط هو أنه دأب منذ سنوات عديدة أن يكون أحد أدوات هذه العملية بعمله كمحرر للكتب والمخطوطات وكصحفي في الاقسام الثقافة وكمدقق لغوي وكمترجم مقالات ولكن خلف هذا الدأب ووراء تلك الشاعرية يقبع مواطن سوداني كامل المواطنية إن نشدنا ذلك ولا يخلو من استثنائية إن بحثنا عنها .. في هذا الاستنطاق ورطناه في الحديث عن العالم من خلال نفسه … وعن نفسه من خلال الشعر… ورفض هو التورط في أحاديث أبعد من ذلك رغم إصرارنا الذي سيظل .. فرضينا من تلك الغنيمة الاستراتيجية بهذا الإياب التكتيكي الذي لا بأس به .. ولا بد منه فإلى دواخل الحسن عبد العزيز كما تبدو عبر (كوى) كلمات وفقرات نجحنا في اصطيادها على حين انتباه
2
يقول الحسن عبد العزيز ” الشعر روح اللغة.. يصعب القبض على إرهاصاته الآولى كما يصعب التأريخ لبداياته.
في العام الثالث من المرحلة الابتدائية كانت قصيدة:
زارع الحقل في البكور
عيشك الدهر أخضر
كانت مقررة على الصف الخامس، لكنني كنت أحفظها عن ظهر قلب.. ربما كنت بحاجة لأكثر مما يتيحه المنهج الأكاديمي من نصوص أدبية وبخاصة الشعر.. ربما لوكان قد توفر ذلك لذهبت في الكتابة الأدبية إلى أبعد مما أنا عليه الآن.. ولكن كما وصف أحد الروائيين الإنجليز فقر المكتبة البيتية الذي كان جزءا من بيئة فقيرة إلى أسباب المعرفة؛ قال: “لم يكن في البيت ما يصلح للقراءة سوى الإنجيل.. There was nothing to read but the bible”
3
” متمسكا بوجوده في ال(لاوجود) .. متآمرا -مع مقلتيّ – علي ; أفشي
ما أخبئ في أضابير الهوي للريح ، تذروني لأصلب حيث لا يبكي علي
موتي أحد . وكأنني ما جئت إلا من دمي ، لأعود ملحا للتراب و موطئا
لشوارع الأسفلت .. تفلتني أناي . و علي الرصيف أحس من فوقي
خطاي .. قبلتها ، ابتسمت ، و قالت: “نلتقي عند الحصاد علي
السنابل و الغبار” أخبرتها أني سأزهر عن قريب . منها
الكؤس ، و نحتسي ، مني العصارة . ننتشي حد الثمالة .. نلتقي في
زهرتي يا خطوتي .. فلتسلكي هذا الطريق . تفضي إلي
هواجسي ، لغتي ، السنابل و الرحيق . حتي الدموع إذا جرت من
مقلتي .. تفضي إلي . إن تبحثي عني هنالك ، أو هنا .. سيان. محض
انتمائي للبطولة زائف . قابلت روميو – في الطريق لسيبويه – ” أنعم
صباحا يا شهيد الحب ، لست بمعتب ” “أ يقال عني – أيها
العربي – حقا ، ما تقول ؟ ” جولييت لم تك من حسان
الحور ، لم يك في الغدائر موطئ لحب في الرمق الأخير . و قد
التقينا – لا كما قيس و ليلاه علي شفة الغدير – كمسافرين إلي
أقاصي الأغنيات . و قضيت مثل الآخرين ، كما قضت هي – مثلما
عاشت – بلا جسد يؤرقه المدي ; فلأي مأكمة يحاكمني الردي ؟ لم ينتحر
روميو إذن ، لكنه – متمسكا بوجوده في ال(لا وجود) – شرب
الخلود . و نسيت أن أحيا .. فمتّ لكي أسود ”
نص بعنوان (ونسيت أن أحيا) للأستاذ الشاعر الحسن عبد العزيز
4
يقول الحسن أيضا : نشأت في مدينة ود مدني، ما وفر فرصا لم تكن في متناول الكثيرين من مجايلي من كل فجاج الوطن.. المدرسة لم تكن مجرد مؤسسة قهرية يمضي إليها التلاميذ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.. كان هنالك مساحة للمرح والغناء.. اتسعت كثيرا عندنا انتدبت وزارة التربية أستاذ صبري، في بداية عصر الإنقاذ البغيض.. الأستاذ صبري كان عضوا في اتحاد فناني ولاية الجزيرة وكان عازفا على العود بلمسات ساحرة.. هكذا أصبح ما يسمى بالغناء العاطفي جزءا لا يتجزأ من البرنامج الترويحي في المدرسة.. كان يسمح لنا بالغناء أحيانا أثناء الدرس لبرهة حتى نستعيد حضورنا..
في المرحلة المتوسطة كان نشاط الجمعيات الأدبية أمضى من سابقتها.. كان هناك جمعية للتشكيل كذلك.. في هذه المرحلة اكتشفنا دوافع مشتركة بيننا لمحاولة كتابة الشعر والقصة.. كانت بيننا كطلاب تجمعنا المدرسة مساجلات شعرية باللغة العامية
في المرحلة الثانوية حظيت بفرصة الدراسة في مدرسة حنتوب العريقة.. كان المسرح جزءا من نظام الدراسة.. حيث درجت إدارة المدرسة على تنظيم منافسة للمسرح تتكون من 12 فقرة ل10 داخليات؛ كان ذلك عرفا عريقا في المدرسة على مر الأجيال..
مضيت إلى جامعة جوبا وكانت الأنشطة الأدبية فيها أشبه بنظيرتها في المرحلة المتوسطة نظرا لقلة اهتمام كلية الطب بمثل تلك الأنشطة..
5
لم يحصل (الدكتور) الحسن عبد العزيز على شهادة في الطب رغم إكماله – تقريبا – لسنوات دراسته بجامعة جوبا لأسباب يتداخل فيها الخاص بالعام واليومي بالوجودي ولم نشأ أن (نحكها) معه في هذا التوثيق التكتيكي لشاعر سوداني معاصر يقول لنا أيضا أنه لا زال يبحث عن الشعر في الحياة وعن الحياة في الشعر.. ” كنت شديد الشغف بالنظر إلى الأشياء من منطور نقدي.. وربما تسربت هواجس النقد إلى النصوص الشعرية” و ” كتبت من أجل الكتابة.. لا لشيء ..فوجدت فيها كل شيء”
ثم ” ورطني الشعر في الفلسفة في اللحظة التي اكتشفت فيها أن تصوراتي عن الكون والحياة بحاجة إلى إعادة تأثيث مستدامة.. بدأ ذلك بمحاولة اكتناه ظاهرة الشعر ذاتها.. أشد الأشياء غموضا وتخفيا.” فـ “وصلت إلى يقين أن الشعر لا ينكتب إذ تمثل النصوص لأشد الكتاب إلهاما مجرد اقترابات من حوض الشعر لا تؤدي بهم إلا إلى احتراق كامل على ضفاف المجاز وهم يصنعون حقائقهم من مجرد أوهام خلاقة.
6
ويمضى الحسن متحدثا عما اسماه ” إعادة تعريف الإنسان كحيوان شاعر ”
مثل االشاعر كمثل بناء يفكك منزلا ليصنع من لبناته أشكالا لا تصلح إلا للتأمل المحض.إنه يعمل على تقويض المعنى مستخدما ذات الأدوات التي يتشكل منها المعنى؛ الكلمات. ولكي يخلِّص اللغة من غاياتها السردية عليه أن يتخلص هو من تلك الغايات أولا، ولن يتسنى له ذلك ما لم يفق من وعيه.الوعي ورطة الشاعر؛ سادن العادي والمبتذل.
ويقول أن الكاتب الألماني غوتهو ليد ليسينج يذهب إلى أن الأحداث التي يعتمد وقوعها على مرور الزمن تشكل مملكة الشعر مؤكدا النظرية الأصولية القائلة بأن الشعر والرسم مختلفان من حيث الجوهر، لكن الشاعرلا يكتب الشعر لمجرد أنه لا يستطيع الرسم أو لعدم توفر الألوان.
7
ويمضي الحسن : ينفتح من الشعر (نفاج) على الفلسفة، لكن مجرد شعرنة الخطاب الفلسفي لا تصنع شعرا، بل – بالكاد – تصطنع خطابا يشير إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر. يذكرني هذا بمقولة للفيلسوف الفرنسي فرانسيس بيكون: “شكرا لميكيافيللي لأنه حدثنا عن ما يفعله الناس وليس عن ما يجب أن يفعلوه”. يحدثنا الخطاب الشعري عن ما يجب أن يفعله الشعراء بينما يحدثنا الشعر عن ما يفعلونه حقا؛ وما يفعلونه – حقا – هو أنهم ينطلقون من نقطة في جسد اللغة ليعبروا من خلالها إلى سيميائية أبعد غورا في اكتناه الروح البشرية. وكما أن الروح تتخفى وراء الجسد فإن الشعر يتخفى وراء الكلمات بحيث لا يمكن رؤيته بعين البلاغة المجردة؛ إذ ليس من شأنه أن يبحث عن أوجه التشابه بين الأشياء، بل بما يحقق لكل منها كونه المتفرد عن ما سواه.
7
ويخلص معنا الحسن إلى أن الشعر سلك في تطوره داخل مؤسسة الأدب مسارين مختلفين: البحث عن شكل يميزه عبر الرصد والتقعيد للنماذج القياسية من أوزان وقواف وقاموس. (و) التخلص من الأعراض الجانبية لهذا الشكل؛ إثر اكتشاف إمكانية تحققها في أنظمة لغوية أخرى كمجرد نظم بارد.
هكذا مضى الشعر خلوصا إلى جوهرة المحض كفن للتعبير لا يبحث عن غاية بيانية. حدث ذلك على مستوى الآداب القومية – كل في عزلته – قبل أن يلقي تطور الأدب المقارن بظلاله على نظرية الشعر ليمنحها بعدا كونيا. كان التناص بين هذه النظريات – القومية – أساس النظرية الكونية للشعر بحكم أن هذه القواسم هي البعد الإنساني للشعر والتي يمكن عبرها إعادة تعريف الإنسان – إنثربولوجيا – على أنه حيوان شاعر.
كان لظهور الصحافة الورقية تأثير جوهري في تطور الشعر إذ أزالت عن كاهله الكثير من الأعباء اليومية لتساهم في تخليصه من البعد الوظيفي؛ غير أنها أضفت عليه بعدا بصريا لم يكن بذات الكثافة عبر ما وفرت له من مساحات مختصة وغير مختصة. ابتعد الشعر عن الثقافة السمعية عندما سيطرت الصورة على نماذج تشكيل الوعي فاقترب من التشكيل لدرجة اكتسب فيها بياض الصفحات دلالة لا تقل أهمية عن سوادها.
ينتظم الشعراء – عادة – في جماعات توفر لهم منصات لتداول منتوجهم الشعري. هذه الجماعات – على ضرورتها – لا تلغي حقيقة أن الشاعر بطبيعته طائر يغرد خارج كل الأسراب. يدور حوار داخل هذه الجماعات وجدل بينها عن طبيعة الشعر وهو في أغلبه يتراوح بين تصورات تتجاوز الواقع وأخرى تتجاوز التاريخ. فهل يمكن للجدل أن يتحول إلى حوار؟
قد تقرأ لكثير من الشعراء قليلا من الشعر، لكن الذهاب إلى الشراب يظل جميلا كنشوته.
الإرادة
ريم عثمان : كتابات حرة الحياة رحلة طالت أو قصرت تحتاج أن نعيشها بسعادة وعطاء، أن نأخذ منها…