‫الرئيسية‬ رأي المشاطة و ( الثرثرات الصامتة)
رأي - ديسمبر 2, 2020

المشاطة و ( الثرثرات الصامتة)

د. اشراقة مصطفى حامد :

كثيرا ما اقرأ في الاسافير واسمع تعليقات تحط من شأن النساء اللآتي يمارسن هذه المهنة. وقبل ان اوضح وجهة نظري اريد للذاكرة ان تتداعى:
فلاش باك اول:
مازالت اصابعهن امي وخالتي على وجه الخصوص تطرب ذاكرتي وتشجيني حركاتها الرشيقة في تمشيط شعر العروس بشعر يعرف ( بالجرسي). خالتي آمنة شقيقة امي الاكبر كانت تمشط احدى ( نسوان الافندية) في كوستي. كنت ارافقها احيانا ولا افوت فرصة ان يكون فعل المشاط في بيتها ( الجالوصي) الأنيق.
طقس حميم تفوح منه روائح بخور التيمان والعدني وصينية عليها صحون طلس صغيرة فيها بلح وحلاوة ( دربسي) و فول مدمس. ( كورية) صغيرة فيها زيت كركار وآخر ماء الحناء. طقس القهوة الممزوج بطقس المشاط بكل تفاصيله ظل حيا في ذاكرتي.
تابعت بعيوني القضولية الصغيرة حركة اصابع خالتي وفمها ( المزموم) بقيمة العمل الكريم. لم اسمعها تحكي اثناء المشاط وكذلك امي التي لم تكن متخصصة كخالتي.
تابعت بفضول الطفلة حينها اصابع المشاطات في ( حلتنا) بكوستي، اصابع تضغط على ذناد الحياة لأجل الحياة.
تعود خالتي من ( بت الخفاجي) الطويلة الجميلة كزرافة وتلمع ( مسائرها) تماما كلمعة عيوني وانا المح بريق الاصرار في عينيها حامدة شاكرة بعطايا بت الخفاجي التي لم تبخل حتى بهدايا مثل ( ثوب ابو قجيجة)؛ سكر وبلح و…..
كل من عرفت من مشاطات لم يثرثرن لا اثناء العمل او بعده وكانن قليلات الكلام الا فيما يخص اتقان ضفرتهن وشدو اصابعهن للرزق الكريم.

فلاش باك ثاني:
صبيات حدفت بهن سفينة الحياة حيث استثمرن ما تعلمنه من الامهات في بلادهن الافريقية. اصابع صغيرة… اصغر كثيرا من احلامهن الكبيرة لاجلهن…. لاجل امهاتهن وبقية الصغار في تلك البلاد ماوراء الصقيع.
تابعت بفضول ( الباحثة) قصصهن… وحكاية صمتهن اثناء العمل ولا حديث سوى فرحة بعيدة خفقت في قلوبهن الصغيرة حالما تلقن حقهن في العمل لارسالها الى هناك … حيث تشرق الشمس كل يوم بالثرثرات الصامتة…. ثرثرات الاحلام ومناوشة عذابات الحياة القاسية التي تعري سطوة المال وظلم سياسات تقسيم الثروة.

ظللت ابحث كلما اتيح لي ان اعرف من اين جاءات تلك الصورة النمطية التي جعلت من ( المشاطة) اساءاة هي برئية منها؟
(فلان او فلانه زي المشاطة)؟!!
مالها المشاطة؟
النساء ذوات الاصابع المعروقة بالصبر والصمت الضجيح؟
النساء يافعات الفكرة لتطوير حياتهن… لابتكار معادلات لقبح يحيط بهن…
المشاطات الفنانات… البديعات… ثريات النفس.
المشاطات اللآتي لا يركض حصان لسانهن الا تجاه ثرثرات ارواحهن واكروبات اصابعهن وسيرة الكفاح الطويل الجميل لمعنى وجودهن…. المشاطات هن الجميلات.

اخيرا لابد من عرفان:
عرفان لامي وخالتي … لمشاطات عرفتهن في مسيرة حياتي النهر… لبنات عرفتهن في النمسا اجادن ذات المهنة بفن مدهش امتد من اثيوبيا لرواندا… جنوب افريقيا… نيجيريا… غانا… بوركينا فاسو… و…..و…….
عرفان لخالتي التي علمتني كيف اضفر الاصرار لاجل ان اطلق ضفائر الحياة.
لامي التي علمتني خطوط الطول والعرض واشجت خيالاتي بحركة اصابعها ودوراني حول اعاصير المحبة.
لهن عرفان ابدي…. فحين لم تكفي منحتي الدراسية لمجابهة المسؤولية الكبيرة مارست مهنتهن ثلاث مرات..
حصادهن المادي الذي ساهم في حل بعض الاشكاليات هناك
وملأني برضاء النفس وجعلني انوم قريرة الحلم بتحسين اوضاعنا…. مثل هؤلاء الصبيات الصغيرات.
ثلاث مرات جعلتني اشجي بالنخلات الفارهات المبدعات: المشاطات.
جعلت عيوني تبرق بالحنين كلما مشطت شعري…
نعم امشط شعري بنفسي وهي لحظات صمت حميمة مع النفس والاسفار التي لاتعود منها حتى مع آخر ضفرة وجع.
السؤال:
من أين جاء هذا التنميط للمشاطة و صمتها تراتيل للاستغراق في عوالم اشبه بحالات صوفية؟

والجميلات هن المشاطات
المشاطات هن النخلات
ذوات الخيول الراكضة نحو الجمال…. نحو ثمار الحياة.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …