ثورة ديسمبر، كيف تسرّبت من أيدي الفقراء؟
محمد حسابو :
على الرغم من أن انطلاقة ثورة ديسمبر كانت على خلفية ضنك العيش، غلاء الخبز وأزمة الوقود، ابتدرها من لا يملكون قوت يومهم طلاب المدارس في الدمازين وعطبرة وغيرهما من الأطراف، إلا أن شراع زورقها الشهير قد أوصلها لترسو (مؤقتاً؟) تحت أقدام قيادات الجيش والدعم السريع والشواطئ التي يهيم فيها وجوه النخبة السياسية المعروفة بـ قوى إعلان الحرية والتغيير، رفقة كومبارس “الوجوه الجديدة” التي ورثت الثورة في شكل مناصب ووزارات، وبإشراف الرعاة الإقليميين بطبيعة الحال.
بانتقال عدوى الاحتجاجات إلى الخرطوم اتسعت قاعدتها الاجتماعية والفئات التي انخرطت فيها، أسهمت الطبقة الوسطى المدينية بأولوياتها فاضافت قضايا الحريّات إلى فاتورة لقمة العيش والكفة المثقلة بإخفاقات الدولة الفاشلة، ولكن، إذ غدت الاحتجاجات في العاصمة أكثر حيوية وتصدرت المشهد، تراجعت شيئا فشيئا أصوات الفئات الأكثر فقراً وإنسان الهامش وطالهم التغريب، تقنيًّا بسبب ضعف أو غياب التنظيمات التي تعبر عنهم، في وجود قيادة أكثر تنظيما من ممثلي البرجوازية الصغيرة عبر قوى إعلان الحرية والتغيير وفي قلبها تجمع “المهنيين”، ما كرّس من الوضع القيادي لتنظيمات الطبقة الوسطى المدينية، قحت والمهنيين، والتي أسهم خطابها الإعلامي، بحكم طبيعتها، في مسخ هويّة ثورة ديسمبر من خلال طمس البعد الاقتصادي للحراك ممثلا في استحقاق لقمة العيش والتركيز على تصويره كـ”ثورة وعي” وثورة حقوق (ليبرالية)، وتلك نصف حقيقة بطبيعة الحال.
البرستيج السياسي للنخبة السياسية التي عارضت الإنقاذ لثلاثين عاماً لا يسمح أن تكون ثورة شعبها في نهاية الأمر دافعها لقمة العيش، لأن ذلك يخرّب مكياج الثورة أولاً ويدمغ مجهودات النخبة السياسية المعارضة بالفشل (في توعية الشعب) ثانياً، وأيضا، والأهم، لأن تغييب البعد الاقتصادي للثورة، وتركه للنسيان، يعفي هذه النخب من تبعات الغوص في أسبابه بما يتجاوز سطح فساد نظام الإنقاذ إلى جوهر سياسات الإفقار وسوء توزيع الثروات، والتبعات تحتّم كذلك على هذه النخب أن ترتقي بخطابها لتقديم بدائل غير هتافية لقضايا التنمية ورسم مسار بناء دولة العدالة الاجتماعية لكل المواطنين، ما يؤدي لا مفر إلى مواجهة الأوضاع والتوجهات العولمية التي تطبّع وتعيد إنتاج الفقر (دولًا ومشاريع ومنظّمات) وما بين الأقواس هم في ذات الوقت رعاة هذه النخب وأولياء نعمتها، المضي في الثورات إلى آخر الشوط يستدعي أن تتجرد هذه النخب من شبكة التزاماتها والارتباطات التي تمدها بالحياة.
التأمت إذن قيادة الأمر الواقع من السياسيين في قوى إعلان الحرية والتغيير لتشذيب حركة الاحتجاج وتهذيب أهدافها ضمن إطار “سياسي” عنوانه إزاحة البشير، من خلال وثيقة مكتوبة بإهمال اسمها “إعلان الحرية والتغيير”. كانت هناك -على أي حال- مؤشرات على قرب طي صفحة البشير الذي أصبح عبئا على الكل، داخليا وخارجيا، فكان “التشاور” جارياً حول ترتيب مشهد “ما بعد” البشير، تلك المشاورات غدت “تفاهمات” خلال فبراير، مارس وأبريل، ترعاها أطراف خارجية ومحاور، لمنع انزلاق البلاد إلى “الفوضى” وإلى “المجهول”، وهي المآلات التي تنتظر -بزعمهم- الثورات الجذرية، ثورات الفقراء والمهمشين.
تسوية “الحيلولة دون الانزلاق إلى المجهول” التي تم تدشينها “رسميا” في أغسطس، تقوم على حماية وتعزيز المصالح الاقتصادية للجيش والدعم السريع مكافأةً لقادة المؤسستين على “تحركهم” لإزاحة البشير ولضمان مواصلة تعاونهم في “ملفات أخرى” ضمنها استئصال الإسلاميين، وهو الكرت الذي يرغب الشريك العسكري في الاحتفاظ به (وبما يمثله من تهديد) لأطول وقت مهتديا بالحكمة القائلة: لا يمكنك استئصال الإسلاميين والاحتفاظ بهم (كفزّاعة) في ذات الوقت. وفيما يحصل العسكريون على القارب، تحصل حكومة قحت على المجاديف، إذ يتمثل دور الحكومة المدنية في تجميل صورة السودان خارجيًا والقيام بالتفاهمات اللازمة لعودة السودان للأسرة الدولية، وترتيب ضخ استثمارات جديدة لزيادة الدخل القومي دون المساس بامبراطوريتيي الجيش والدعم السريع. على أمل أن الاستثمارات الوافدة ستفي بالمطلوب لتحريك قطاعات إنتاجية أساسية مثل الزراعة والصناعات التحويلية والسياحة والخدمات والبنى التحتية، وهي قطاعات يمكنها اجتذاب الكثير من رؤوس الأموال بما ينعكس على المستوى المعيشي العام ويخلق عشرات الآلاف من الوظائف الجديدة بالتدريج، وسيخلق كذلك وهْماً بنجاح التغيير بتوسيع قاعدة المستفيدين من الثورة بتلبية طموحات أبناء وبنات الطبقة الوسطى، أولئك الشابات والشبان الذين سيحصلون على فرص العمل وفرص الاندماج في نمط الحياة العصري (الذي حرمتهم منه الإنقاذ) بعد أن ترتخي قبضة العزلة الدولية للسودان وقبضة بوليس الآداب. التحالف بين الطرفين هو مصلحة الطرفين، من يملك القارب ومن بيده المجاديف.
هكذا يأمل الشركاء في امتصاص العوامل الموضوعية لاستمرار الثورة، وهي مساعٍ ابتدأت باكراً بتخفيف حدّة وجذرية الثورة عندما تمت إعادة تعريف القوى الاجتماعية المنخرطة في الثورة باستبعاد وعزل الأكثر فقراً والمهمشين، وحتى عندما عاد هؤلا للتسلل مرة أخرى من النافذة التي أتاحها لهم الاعتصام أمام قيادة الجيش للاندماج في الثورة من جديد، ضمن شروط كوميونة الاعتصام، استشعر الشريكان خطورة الأمر فطفقا يتحدثان عن “الظواهر السالبة” والممارسات الخارجة في و”حول” ساحة الاعتصام، ولذا أيضاً تلاقت إرادة الشريكين على إزالة بثور كولومبيا عن وجه ثورة أبناء الطبقة الوسطى السلمية وطريقتها المُثلى. فض الاعتصام كان ضروريا لتمرير الاتفاق، وضروريا لإزالة شوائب المهمشين والفقراء عن حساء ثورة “الوعي”.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …